12 سبتمبر 2025

تسجيل

ومازالت القوة هي لغة العلاقات الدولية

07 أكتوبر 2015

تحت شعار مكافحة الإرهاب بدأت روسيا الأسبوع الماضي في توجيه ضربات جوية لأهداف سورية، في خطوة تصعيدية خطيرة ليس فقط بالنسبة لأنظمة وبلدان الشرق الأوسط، ولكن بالنسبة للقوى الأوروبية وأمريكا أيضاً. فالتدخل الروسي يشير بوضوح إلى تخطي الروس لحدود القوة المعترف بها، كما يتضمن الشروع في تغيير ملامح نظام دولى استقر على أسس معينة منذ نهاية الحرب الباردة، الأخطر أن مخاض هذا التغيير ينطلق هذه المرة من الشرق الأوسط، معمل السياسة الدولية، ومحل اختبار مقدرة أى قوة تطمح إلى تعديل موقعها في هيكل النظام الدولي.هذا وقد أخذ التدخل الروسي شكل استعراض القوة وليس فقط مواجهة من تسميهم روسيا الجماعات الإرهابية، فوفقا لما نشرته وكالات الأنباء أرسلت موسكو العديد من الأسلحة المتطورة وأسراب المقاتلات التي تستخدم في القصف الجوي الجوي، فضلاً عن صواريخ لمواجهة بطاريات المضادات الجوية، ومن المعلوم أن تنظيم الدولة الذي تدعي روسيا تدخلها من أجل القضاء عليه، لا يمتلك قوات جوية ولا طائرات، الأمر الذي يثير التساؤل حول الغرض الذي من أجله ترسل موسكو بهذه الترسانة المتطورة إلى المنطقة.ورغم خطورة الخطوة الروسية إلا أنها قوبلت بموقف أوروبي مفكك، ورد فعل أمريكي ضعيف. وعلى حد البعض فإن ردود الأفعال الأوروبية تبدو في هذه الأزمة شبيهة بردود أفعال العالم العربي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين، فهي تعكس نفس الحالة من العجز والتردد وقلة الحيلة. وتكاد تتمحور حول الاستنكار والشجب، على سبيل المثال، اكتفى حلف شمال الأطلنطي بالتنديد بالخطوات الروسية، داعيا روسيا إلى الوقف الفوري لهجماتها ضد المعارضة السورية والمدنيين. أما بريطانيا فوصفت السلوك الروسي بأنه يهدد النظام الدولي، مضيفة بأن روسيا لا تحترم الأعراف الدبلوماسية. أما فرنسا فلم تستطع إلا أن تطالب بتركيز الضربات الروسية بحيث تستهدف فقط تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات التي تعتبر إرهابية مثل جبهة النصرة، أما الحكومة الألمانية فقد أعربت عن "تشككها" إزاء صحة البيانات الروسية بشأن أهداف الهجمات التي يشنها السلاح الجوي الروسي في سوريا، مطالبة بأن تطابق روسيا بين أقوالها وأفعالها!أما الموقف الأمريكي، والذي يستحق مقالاً منفردا لما يثيره من علامات استفهام، فقد اكتفى بالتحذير من أن تؤدي الحملة العسكرية الروسية في سوريا إلى "كارثة مؤكدة"، نظرا لأن موسكو لا تفرق بين تنظيم الدولة "والمعارضة المعتدلة". ولكن رئيس الدولة الأقوى في العالم سارع بالاستدراك بأن واشنطن وموسكو لن تخوضا "حربا بالوكالة" بسبب هذا الخلاف.بالنسبة لدراسي العلاقات الدولية ترسم هذه التفاصيل جزءا كبيرا من ملامح النظام الدولي في المرحلة المقبلة، فمن راهنوا على إمكانية تشكل قطب أوروبي يبدون الآن أكثر اقتناعا بأنهم قد بالغوا قليلاً، فأوروبا الموحدة مازالت بعيدة عن أن تشكل قطبا دوليا فاعلاً. حيث يبدو أن تبعيتها لأمريكا قد سلبتها الكثير من عناصر قوتها. فرغم رفض بعض الأطراف الأوروبية للتدخل الروسي، إلا أن هذه الأطراف أضعف من أن تؤثر على سلوك موسكو أو أن تردعه. عدم تأهل أوروبا أوروبا لمواجهة مشاكل النظام الدولي يظهر أن مشاريع الوحدة الإقليمية لا تترجم على نحو تلقائي إلى ممارسة للنفوذ العالمي ما لم تصحبها رؤية واضحة لطبيعة الدور الذي يتعين القيام به. فأوروبا الموحدة صاحبة أحد أقوى الاقتصادات في العالم، لا تستطيع الاستفادة من قوتها الاقتصادية لردع الاستقواء الروسي الذي لم يتوقف عند الحدود الأوكرانية، كما هي عاجزة عن أن تمنع الروس من زيادة فوضى الشرق الأوسط، وهي الفوضى التي ثبت بالتجربة (من خلال أزمة اللاجئين) أنها قابلة للتصدير إلى الغرب. ما يؤكد أن القوة الناعمة التي تبنتها النخب الأوروبية اختيارا أو اضطرارا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قد لا تجدي نفعا مع سياسات القوة التي تمارسها موسكو.من الدروس المستفادة أيضاً أن الدول الكبرى لا تكتسب مواقعها في هيكل النظام الدولي من مجرد حيازة مقدرات القوة، ولكن من رغبتها واستعدادها لاستخدام هذه المقدرات لتحقيق مصالحها، وبتطبيق هذا على السلوك الأمريكي الحالي يظهر أنه يعاني من تراجع واضح. والتراجع الأمريكي لا يشير إلى تراجع في القوة العسكرية، فمازالت أمريكا صاحبة أقوى جيش في العالم، ولكن إلى تراجع في قدرتها على بلورة استراتيجية محددة في الشرق الأوسط، فأمريكا لا تبدو قادرة على تحديد طريقة مناسبة لاستخدام قوتها. وهو ما حاولت الإدارة الحالية أن تعوضه من خلال الانكفاء على الداخل طوال فترتين رئاسيتين.أما روسيا فرغم كونها ليست الأقوى بمعايير القوة المجردة إلا أنها تبدو صاحبة الصوت الأعلى بفعل نوعية السياسات التي تتبناها، صحيح أن هذه السياسات تقيم جدارا من الريبة بينها وبين دول العالم الأخرى. ولكنها تمثل أسلوب روسيا المفضل للحركة الخارجية. فلم يعرف عن الروس التشدق بحقوق الإنسان، وهم لا يجيدون ذلك حتى إذا أرادوه، كما لا يستطيع بوتن أن يظهر بمظهر مكافح الإرهاب، فقط اعتبارات المصلحة الجيوستراتيجية هي التي تحكم القرار الروسي. وفيما يتعلق بالأزمة الأخيرة فإن ما تفعله روسيا ببساطة هو أنها تحاول الحفاظ على مجالها الحيوي ومصالحها، حتى لو ترتب على ذلك أن تتورط فيما يشبه الحرب الأهلية. من المهم في النهاية تذكير من كانوا يعولون على روسيا للوقوف ضد المخططات الأمريكية لتفكيك المنطقة، ويستشهدون بموقفها الرافض للتدخل الأمريكي في الأزمة الليبية بخطأ حساباتهم. فاليوم تتدخل روسيا بقوتها المباشرة، وبدون تفويض دولي في نزاع إقليمي، يساهم في زيادة الفوضى بالمنطقة، ما يؤكد على أن عناصر الاستمرارية تفوق عناصر التغير فيما يتعلق بطبيعة منظومة العلاقات الدولية، وأن قواعد اللعبة الدولية مازالت تجري وفقا للمنطق البسيط الذي أرسته المدرسة الواقعية أو مدرسة القوة.