14 سبتمبر 2025
تسجيل"إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا، فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا يمكن لأحد أن يضمن ماذا يمكن أن يحدث، لا سمح الله، إن حدث أي شيء للنظام". بعد فترة قليلة من انطلاق الثورة السورية سمع العالم بأسره تصريح (المواطن السوري) رامي مخلوف بالعبارة السابقة. يُذكرك هذا التصريح بالحديث الذي يُحذّر المؤمن من أن يقول كلمةً قد تهوي به أربعين خريفاً في نار جهنم. لكنك تترك الآخرة وأمر الناس فيها لله وتتعجب: هل يمكن لإنسانٍ أن يصيب القضية التي يدافع عنها في مقتل بطريقةٍ أكثر سوءاً مما فعله المواطن المذكور؟ ثمّة مواقفُ تاريخية لايوجد أي تفسير منطقي أو علمي لحدوثها، ولايمكن إلا أن ترى كيف تدفع يدُ الإرادة السماوية البعضَ لاتخاذها لحكمةٍ ستظهر للناس عاجلاً أو آجلاً. ولو أن سورياً صرّح قبلها بالعبارة المذكورة أعلاه، ولصحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، لكان هذا أقصر طريق لمحاكمته بالخيانة العظمى. فالمفروض وفق منطق المقاومة والممانعة أن وجود الاستقرار في سوريا، بمعانيه ومقتضياته الحقيقية، هو الذي يجب أن يكون مدعاةً لغيابه في إسرائيل. وحين يربطُ مخلوف بهذا الشكل الواضح، وفي مثل المقام الذي تمّت فيه المقابلة الصحفية، بين أمن النظام في سوريا وأمن إسرائيل، فإنه، عملياً، يتّهمُ ذلك النظام بكل وضوحٍ وصراحة. لأنه يؤكد أن استقرار نظام (ابن عمته) هو الضامن الحقيقي والوحيد لاستمرار الاستقرار في إسرائيل. وهذا اتهامٌ في غاية الخطورة مرّ داخل سوريا نفسها مرور الكرام دون مساءلةٍ إن لم نقل محاكمة. لن يكون غريباً أن يشعر عشرات الملايين من العرب والمسلمين بالغثيان بعد سماعهم بالتصريح المذكور ويسخروا منها. أما ما لا يمكن أن يُفهم من قريب أو بعيد فإنه يتمثل في غياب صوت كل من صنّف نفسه يوماً من الأيام في خانة دعم المقاومة بأي طريقة. هرب من الموضوع يومها بكل صفاقة العشرات من الفنانين والمثقفين والكتاب السوريين واللبنانيين والعرب ممن كانوا يؤكدون أن سوريا تتعرض لما تتعرض له، لأنها تحديداً بلد المقاومة والممانعة في وجه إسرائيل؟ وعلى نفس المسار كان موقف الحركات والأحزاب والتنظيمات التي وقفت وتقف مع (سوريا الأسد) لأنها ذلك البلد المقاوم والممانع! كانت تلك لحظةً من لحظات الحقيقة بالنسبة لهؤلاء جميعاً. وكان السكوت عنها داخل سورية سقوطاً مدوياً ونهائياً لورقة المقاومة فيها، كما كان السكوت عنها في الخارج سبيلاً لسقوط كل من يدعي أنه يمثل ويقف في صفّها، وتحديداً من لبنان إلى إيران. قد ينسى بعض الناس، وقد يتناسى بعضهم الآخر، لكن التاريخ لا ينسى. ربما يجدر هنا التذكير ببعض مواقف (المقاومة) و(الممانعة) التي لازالت جراحها تنزّ في الذاكرة الفلسطينية والعربية. يقول كمال جنبلاط في كتابه (هذه وصيتي) في الصفحة (105): "نقل عن ياسر عرفات قوله للأسد عند اجتماعه به في 27/3/1976م) إن قلب المقاومة ومستقبلها موجود في لبنان، وإن إرهاب الجيش السوري والصاعقة لن يفيد، وإنه يعز علينا أن نصطدم بالجيش السوري ونحن على مرمى مدفعية العدو الصهيوني والأسطول السادس الأمريكي). فكان رد الأسد (ليس هناك كيان فلسطيني، وليس هناك شعب فلسطيني، بل سوريا وأنتم جزء من الشعب السوري، وفلسطين جزء من سوريا، وإذن نحن المسؤولون السوريون الممثلون الحقيقيون للشعب الفلسطيني). يُقتل الرجل الوطني المثقف بعدها بسنة، ثم يسقط مخيم تل الزعتر في لبنان على يد الميليشيات اليمينية بتاريخ 14 أغسطس من عام 1976م بعد أن حاصرته القوات السورية أكثر من شهر ونصف الشهر، حيث منعت تلك القوات وصول الطعام والماء والذخيرة إلى المخيم، كما شاركت في الإعدامات وهتك الأعراض والنهب تحت قيادة العقيد علي مدني، قائد الشرطة العسكرية، ومن رجال الحركة التصحيحية 1971م. وفي عام 1982م اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت أول عاصمة عربية تحت نظر وسمع القوات السورية التي "خرجت بكامل أفرادها وما كان قد بقي سالما من معداتها، بعد أن فتحت لها القوات الإسرائيلية ممرا بريا خاصاً ومحدداً برعاية المبعوث الأمريكي فيليب حبيب.. في حين رفض ياسر عرفات الخروج إلى دمشق أو عن طريقها وفضل الخروج إلى بلدٍ غربي هو اليونان، في إشارة سياسية صريحة تعكس حجم توتر العلاقة بين القيادتين السورية والفلسطينية خلال الحرب" كما نقل ممدوح نوفل الزعيم السياسي والعسكري وعضو المجلس الوطني الفلسطيني. وفي صيف عام 1983م حاصرت القوات السورية القائد الراحل ياسر عرفات بعد عودته لمناصرة قواته في شمال لبنان، إلى أن سقط مخيما البداوي ونهر البارد بعد ثلاثة أشهر بعد سقوط أكثر من 1000 شهيد فيهما من المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين. كان هذا الخروج الثاني من لبنان حيث غادرعرفات طرابلس على متن السفينة "أوديسيوس إيليتيس" مع ضباطه و4000 مقاتل، أقلتهم 5 سفن يونانية ترافقها البحرية الفرنسية. قد تكون مثل هذه الأحداث جزءاً مما دفع الشاعرة العربية لينا أبو بكر للحديث يومها عما أسمته بـ "الحَول السياسي"، لكنها رأت مصداقاً آخر له بقولها: "فالدبابات تقَتحم درعا التي يقطنها مدنيون سوريون وتقع تحت سيادة سورية كاملة وعلى بعد 20 كيلومترا فقط من هضبة الجولان التي يحتلها الجيش الاسرائيلي منذ النكسة عام 1967، فأن يضطر نظامٌ ما لاحتلال ومحاصرة مدينة تقع أصلاً تحت حكمه وسيطرته لمجرد أن المدنيين يطالبون بإصلاحات، بينما يُغفل جيشاً بل ودولةً يفترض أنها عدوة تتوغل في عمقه الجغرافي منذ ما يزيد على الأربعين عاماً من دون أن يكلف نفسه إطلاق رصاصة عرس واحدة حتى في سمائها". هل ثمة داعٍ للتذكير، على سبيل المفارقة، بتفاصيل الصبر الأسطوري على كل أنواع المعاناة، والتي كانت من نصيب الشعب السوري على مدى عقود باسم المقاومة والممانعة؟ هل ثمة داعٍ للتوضيح بأن هذا الشعب، وليس غيره، هو الذي احتضن الفلسطينيين بعد (النكبة)، واحتضن اللبنانيين أثناء عدوان إسرائيل على لبنان عام 2006م؟ مايدعو للرثاء أكثر من كل شيء آخرهو تلك المحاولات المتخبطة لتغطية "فلتة" رامي مخلوف حين أعلن أحد مواقعه الالكترونية أن الصحيفة شوّهت تصريحاته. ثم حين ظهر أن سجلّ المقابلة موجود، خرجت علينا السفارة السورية في واشنطن ببيان تقول فيه أن الرجل (مواطنٌ سوري عادي) لايشغل أي منصب حكومي وأن آراءه شخصية ولاتعبر عن وجهة نظر الحكومة السورية؟! صدق المثل السوري (اللي استحوا ماتوا).