12 سبتمبر 2025
تسجيلانطلقت في تونس يوم السبت 5 أكتوبر أولى جلسات الحوار الوطني للخروج من الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، منذ اغتيال الشهيد محمد البراهمي يوم 25 يوليو 2013، على أيدي متشددين من تنظيم "أنصار الشريعة"، الذي صنفته حكومة علي العريض بأنه تنظيم إرهابي". وانتهت الجلسة الأولى للحوار التي شارك فيها 25 حزباً، بتوقيع 22 حزباً خريطة الطريق المقترحة من قبل المنظمات الراعية للحوار، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل بزعامة السيد حسين العباسي، واتحاد الصناعة والتجارة بقيادة السيدة وداد بوشامي، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان برئاسة السيد عبد الستار موسى، ونقابة المحامين التونسيين برئاسة السيد الفاضل محفوظ. ووقع على خريطة الطريق كل من الترويكا الحاكمة الشيخ راشد الغنوشي زعيم "حركة النهضة "الإسلامية، وحليفه الدكتور مصطفى بن جعفر زعيم حزب "التكتل والديمقراطية"، فيما رفض حزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" المشارك في الحكم (حزب رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي) التوقيع على الخريطة. وصرح المرزوقي بأن حزبه يرفض التوقيع على خريطة الطريق قبل الاتفاق عليها من قبل الفرقاء السياسيين، وتساءل «إذا تم التوقيع على مضمون خريطة الطريق اليوم فما هو الداعي إلى الحوار أساساً؟» معتبراً أن المنظمات الراعية للحوار الوطني تستعمل الابتزاز من أجل فرض تنازلات على الائتلاف الحاكم. ويتمحور تحفظ «المؤتمر» حول «وجوب استقالة الحكومة اثر ثلاثة أسابيع من انطلاق الحوار الوطني وإنهاء عمل المجلس التأسيسي بعد أربعة أسابيع من التاريخ نفسه. أما من جانب أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية، فقد وقع كل من السيد قائد السبسي زعيم حزب "نداء تونس"، والسيد حمة الهمامي، الناطق الرسمي "للجبهة الشعبية"(الائتلاف اليساري الذي يضم ثلاثة عشر حزباً يساريا وقوميا). فيما رفض التوقيع أيضاً، رئيس حزب"الإصلاح والتنمية" (إسلامي) وتيار «المحبة» (محافظ) الذي يترأسه القيادي السابق في "النهضة" الهاشمي الحامدي. وكانت خريطة الطريق المنبثقة عن مبادرة المنظمات الأربع الراعية للحوار الوطني، تتضمن تتضمن "القبول بتشكيل حكومة كفاءات ترأسها شخصية وطنية مستقلة لا يترشح أعضاؤها للانتخابات القادمة تحلُّ محلّ الحكومة الحالية التي تتعهد بتقديم استقالتها، وتكون للحكومة الجديدة الصلاحيات الكاملة لتسيير البلاد"، كما تشدد المبادرة على ضرورة التوافق على "شخصية وطنية مستقلة" لتولي رئاسة الحكومة في مدة أقصاها أسبوع من تاريخ انطلاق الحوار والانتهاء من تشكيل حكومة الكفاءات المستقلة في موعد أقصاه أسبوعان من تاريخ تكليف الشخصية المستقلة بتشكيل الحكومة. ويأتي هذا الحوار الوطني، بعد أن عاشت تونس أزمة كبيرة بسبب موجة الاغتيالات السياسية التي طالت رموز المعارضة اليسارية والقومية، واستفحال ظاهرة الإرهاب الأصولي بقيادة تنظيم " أنصار الشريعة"، حيث تتهم أطراف من المعارضة التونسية ومنظمات المجتمع المدني حركة النهضة والأمن الموازي في وزارة الداخلية المرتبط بها، بالتواطؤ في اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. فقد كشفت الثورة التونسية، ومراحل الانتقال الديمقراطي المختلفة، عورات السلطة الإسلامية وإخفاقاتها، وعجز المعارضة الليبرالية واليسارية والقومية عن تقديم البديل المجتمعي في آن معاً. الأزمة اليوم في تونس، أزمة نظام حكم. إنها أزمة حكم حركة النهضة الإسلامية لمجتمع تونسي يتسم بالاعتدال، والوسطية، وبالتنوع الثقافي، حيث أصبحت ثقافة الحداثة بكل منطوياتها الفكرية والسياسية متجذرة في بنيانه، والحال هذه يجب أن تكون الدولة القائدة له، هي الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، باعتبارها الدولة الحاضنة لجميع أطياف هذا المجتمع، مما يتطلب فصل الدين عن السياسة، وليس فصل الدين عن المجتمع. وهذا مُمْكِنٌ في الإسلام حيث إن مؤسسة الأزهر كمرجعية إسلامية لكل العالم الإسلامي، تقول بإمكانية الفصل بين فقه الدعوة وفقه الدولة، وضروري في المسيحية التي تقول بترك ما هو لقيصر لقيصر وما هو لله لله. إذا أرادت حركة النهضة أن تكون مُكَوِّناً أَسَاسِياً من مُكَوِّنَاتِ المجتمع المدني الحديث، وتساهم من منطلق الإحساس بالمسؤولية الوطنية للخروج من الأزمة السياسية التي تعاني منها تونس في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة، فعليها، أن تحل الحكومة الحالية، وتقبل بتشكيل حكومة كفاءات وطنية غير متحزبة. كما أن حركة النهضة مطالبة أيضا، بما يلي: أولاً: أن تجسد قطيعة منهجية سياسية وتنظيمية وأيديولوجية مع الجماعات السلفية الجهادية التكفيرية، ومع الميليشيات المرتبطة بها، ولاسيَّما ما يسمى "رابطات حماية الثورة"، باعتبارها جماعات تمارس العنف السياسي ضد المجتمع، وتشكل خطراً حقيقياً على الديمقراطية.. وما لم تصدر الحركة موقفاً واضحاً وصريحاً ومتماسكاً بالرفض المطلق للعنف، وبحلّ الميليشيات، ومحاربة الجماعات السلفية الجهادية، فإن أي حكومة قادمة لن تحظى بثقة المعارضة، ولا بالمشروعية السياسية المطلوبة التي تقوم على فلسفة التوافق. وعلى الحكومة التوافقية أن تعمل من أجل بناء أجهزة أمنية جمهورية، لا حزبية خاضعة لمصالح حركة النهضة ومخططاتها الأمنية المتناقضة مع المجتمع الذي يرفض الاغتيالات السياسية وكلّ ما له علاقة بالعنف من قريب أو بعيد... هذا المجتمع المسالم الذي رفض دائماً الاحتكام إلى السلاح والمرتبط بثقافة الحياة، لا يصدّق أن وراء اغتيال شخصيات سياسية معارضة مثل الشهيد شكري بلعيد، والشهيد محمد البراهمي، فلول النظام السابق. هذا المجتمع يعرف من وراء الاغتيال ويعرف أنّه لا يمكن أن يخرج إلا من عباءة الأحزاب والجماعات الإسلامية السلفية الجهادية، ومن يحميها داخل الحكومة. ثانياً: الشّروع في توسيع نطاق المشاركة السّياسيّة إلى أبعد حدّ من الآن في هذه المرحلة الانتقالية لجهة تشكيل حكومة كفاءات وطنية غير متحزبة، تنجز الدستور الديمقراطي، وتحدد موعداً صريحاً ونهائياً للانتخابات المقبلة، وتعمل على إقامة المؤسّسات الديمقراطيّة الجديدة الّتي يطمح إليها الشّعب التي قامت الثّورة من أجلها. ثالثاً: العمل على تحييد الوزارات السيادية جميعها، الداخلية والخارجية، والعدل، واتّخاذ التّدابير السّياسيّة والعمليّة اللازمة في نطاق القانون الحالي للنظام الوقتي لضمان الاستقرار اللازم واستقلال السّلطة القضائيّة استقلالاً تاماً. رابعاً: إلغاء مئات التعيينات والتسميات الإدارية التي قامت بها حركة النهضة، خلال الفترة الأخيرة، (4500 تعيين في الوظائف)، إذ لجأت النهضة إلى الأساليب نفسها التي كانت تمارس في العهد السابق، ولاسيَّما على صعيد التعيينات الوظيفية في مؤسسات الدولة، من أجل السيطرة على وزارة الداخلية، والإدارة التونسية،وكسب رهان الانتخابات القادمة. فالمتصفح في الرّائد الرّسمي للبلاد التونسيّة يلحظ الكمّ الهائل من قرارات التسميات الإداريّة، والمتأمّل فيها يكتشف خضوعها إلى منطق المحسوبيّة والمحاباة والمحاصصة الحزبيّة، وإلى العلاقات العائليّة والجهويّة، مّا يجعل من جهاز الدّولة أشبه بالغنيمة التّي يتنافس المنتصرون على اقتسامها. خامساً: وضع برنامج وطني اقتصادي واجتماعي للنهوض بالمشروعات التنموية في الولايات المهمشة والفقيرة، ولحل مشكلة البطالة. سادساً: أن يحدّد الإسلاميون موقفهم بشكل واضح وصريح من طبيعة الدولة المدنية الحديثة، باعتبارها أهم هدف تسعى الثورة التونسية لتحقيقه، إذ برزت تساؤلات في المعارضة التونسية، وفي أوساط المجتمع المدني التونسي، عن أنموذج الحكم الذي سيطبّقه الإسلاميون بين مقتضيات الدولة الحديثة وشعاراتهم الانتخابية المعروفة، بدءاً من تطبيق الشريعة ومروراً بأسلمة الدولة وانتهاء بالعودة إلى فكرة الخلافة. ففي تونس يحاول العلمانيون والإسلاميون اختبار طريقة للتعايش معاً، كما يحاولون إقامة نوع من الديمقراطية التي تتلاءم مع الإسلام الليبرالي، غير أن الجناح المتشدد في حركة النهضة المتحالف مع الجماعات السلفية "الجهادية" يريد إقامة دولة إسلامية، ولو تطلب الأمر التدرج، بينما يريد مختلف أطياف المعارضة بناء دولة ديمقراطية تعددية على الطراز الغربي، والانقسام بينهما كبير وعميق. هناك توافق في الرؤى لدى أحزاب المعارضة التونسية اليسارية الراديكالية والديمقراطية والليبرالية على أن الوضع العام في تونس لا يزال يتسم بالضبابية وانعدام الرؤيا حول نهاية المرحلة الانتقالية الحالية. ونظراً لصعوبة المرحلة الانتقالية، وما تقتضيه من توحيد الجهود، فإن المصلحة الوطنية التونسية، تقتضي من حركة النهضة، ومن سائر القوى المعارضة الديمقراطية، مواجهة ظاهرة العنف السياسي الممنهج، وتنظيم مؤتمر وطني بين كل القوى السياسية والاجتماعية والمدنية المناهضة للعنف السياسي، بهدف الاتفاق للقضاء على هذا العنف السياسي الذي يهدّد السلم الأهلي وأمن المواطنين ويغذّي الشكوك في إمكانية إنجاز الاستحقاقات الانتخابية القادمة في مناخ ملائم، فضلاً عن حلّ ما يسمى "رابطات حماية الثورة" وهي مليشيات تابعة لحركة النهضة، وتوفير مناخ سلمي وديمقراطي في البلاد. لن يكتب للحوار الوطني النجاح إلا إذا توصلت الأحزاب السياسية المشاركة فيه إلى الاتفاق على صياغة دستور ديمقراطي للجمهورية الثانية على أساس مدنية الدولة والسيادة الوطنية وكونية حقوق الإنسان، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمساواة الفعلية بين النساء والرجال، ورسم خطة لإنهاء المرحلة الانتقالية وضبط مقتضيات إدارتها سياسيا واجتماعيا وذلك بتحديد رزنامة المواعيد الانتخابية بصفة مدقّقة وتهيئة شروط قيامها، وسن قانون انتخابي جديد توافقي، وتوفير مناخ سليم يضمن شفافية ونزاهة هذه الانتخابات، والإسراع في وضع آليات العدالة الانتقالية وتركيز الهيئات العليا المستقلة للقضاء والإعلام والانتخابات، وضمان حياد الإدارة ودور العبادة عن التسييس والنأي بها عن التجاذبات السياسية التي من شأنها زرع الفرقة والتباغض بين المواطنين، وصيانة المكاسب الحضارية للشعب التونسي، والمتمثلة بالخصوص في وحدة المنظومة التعليمية، والمطالبة بضرورة اتخاذ الإجراءات العاجلة للحد من ارتفاع الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية والقطع مع منوال التنمية الذي عمّق أزمة البطالة ووسّع دائرة تهميش الجهات الداخلية.