13 سبتمبر 2025
تسجيلمن الواضح أن واقعنا العربي والإسلامي مليءٌ بالملفات التي يجب فتحها والتعامل معها بشكلٍ صريح وموضوعي في نفس الوقت. ومن مفارقات هذا الواقع أن الكثيرين يشعرون بضرورة ذلك، وهو ما يجب أن يؤدي بشكلٍ تلقائي إلى وجود (تيارات) تعمل على تلك المهمة وتطالب بها، لكن هذا لا يحصل عملياً.. بالمقابل، يُشير المرء إلى بعض هذه الملفات فتأتيه تعليقات كثيرة تؤيد مثل هذا الأمر، ولكن بشكلٍ خاص، وفي أحسن الأحوال على شكل علامة إعجاب أو(لايك) في صفحة الفيسبوك.. كيف يمكن لواقعنا أن يتطور نحو الأفضل في ظل هذه السلبية؟ ولماذا يكتم الكثيرون آراء مُعتبرة في مواضيع هامة يمكن لتراكُمها أن يخلق ثقافةً مغايرة؟ هذه أسئلةٌ هامة يمكن أن تكون موضوع مقالاتٍ أخرى، وسأترك المجال هنا لأحد تلك الآراء التي وصلتني تعقيباً على مقال الأسبوع الماضي. والكلام للناشر والباحث المُخضرم الأستاذ مجير العُمري: "لقد طرقت موضوعاً حساساً جداً يُحجم كثيرون عن وُلوجه، ربما جُبناً منهم، أو لعدم رغبتهم في مواجهة جمهورٍ عظيم من المسلمين، وبخاصة الذين (يقدسون) الشيخ ناصر الألباني رحمه الله.أنا أعرف الشيخ ناصر شخصياً، رحمه الله تعالى، وأعرف مواقفه في التضعيف والتصحيح. أنا لا أتهمه بسوء رحمه الله.. الصورة العامة عند الناس أن الألباني متشدد جداً في التصحيح، ويبدو أن هذه الصورة غير صحيحة، فقد صحح أحاديث كثيرة هي ضعيفة وصححها من طرق أتعب نفسه في سلوكها. هذا الموضوع جدير بالمراجعة والبحث، وقد آن الأوان لذلك.إن مشكلتنا اليوم مع المتمسكين بالحديث تمسكهم بالسند دون النظر إلى المتن أو النص، وهذه مشكلةٌ لم تكن عند المتقدمين، فكثير من أئمة القرون الأولى لم ينظروا إلى الحديث بسنده دون النظر في النص. ويقول الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في كتابه "الباعث الحديث" ص35: "واختلفوا في الحديث الصحيح؛ هل يوجب العلم القطعي اليقيني، أو الظن؟ وهي مسألة دقيقة تحتاج إلى تحقيق. أما الحديث المتواتر لفظاً أو معنى فإنه قطعي الثبوت، لا خلاف في هذا بين أهل العلم.. وأما غيره من الصحيح فذهب بعضهم إلى أنه لا يفيد القطع، بل هو ظني الثبوت، وهو الذي رجحه النووي في التقريب.وهذا هو مربط الفرس هنا. وهذا ما وقع فيه الألباني، فهو لم ينظر إلى نص الحديث في التصحيح والتضعيف، وإنما كان جل اهتمامه في السند وفي البحث عن طرق في السند ترفع الحديث من الضعف إلى الصحة، وهذا بخلاف المتقدمين الذين نظروا في النص وصحة قبوله مع عدم إهمال السند.قال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تخريج حديث في كتاب "سير أعلام النبلاء1: 283": عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر. قال الشيخ شعيب: معاذ بن رفاعة - وإن أخرج له البخاري - ضعفه ابن معين، وقال الأسدي: لا يُحتج بحديثه." فانظر يرحمك الله، من يجرؤ اليوم على تضعيف حديث أخرجه البخاري، والشائع بين عامة الناس أن "صحيح البخاري" أصح كتاب بعد كتاب الله ..وأعود إلى ما نقله الشيخ أحمد شاكر عن الإمام النووي، فهذا هو العقل السليم، وهذا ما سار عليه المتقدمون.. فالحديث المتواتر الذي رواه مجموعة من الصحابة ثم رواه عنهم مجموعة من التابعين لا يمكن تواطؤهم على الكذب، ثم رواه عنهم مجموعة لا يمكن تواطؤها على الكذب، وهكذا، فهذا أقبله وأحتج به، غير أني لست ملزما بالاحتجاج بحديث آحاد.. والله تعالى أمر بأربعة شهداء لإثبات زنا زانية وإلا يُجلد من اتهمها بالزنا، فكيف أقبل حكما أدين الله به بشاهد واحد؟وإذا نظرنا إلى الأحاديث المتواترة في كتب السنن فهي تعد على أصابع اليد. وهنا تبرز مسألة مهمة جداً في موضوع الأحاديث المتواترة؛ لقد فُرضت صلاة الجمعة بعد الهجرة إلى المدينة مباشرة، فخطب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الجمعة طيلة عشر سنين وشهرين تقريباً، ولنقل إن رسول الله قد خرج من المدينة خلال تلك السنين مدة ما مجموعه سنة كاملة، فقد خطب رسول الله الجمعة ما مجموعه تسع سنين، أي 450جمعة، خطبها على ملأ من المسلمين فهي بمثابة الأحاديث المتواترة لو وصلت إلينا، غير أن أحداً لم يذكر هذه الخطب التي ينبغي أن تكون متواترة .ونُقلت إلينا خطبته في حجة الوداع التي خطبها على نحو مئة ألف من المسلمين. غير أن هذه الخطبة قد جاءتنا بحديث آحاد، رواها لنا جابر بن عبد الله فقط ! لماذا؟ونجد الشيخ ناصر الألباني، رحمه الله تعالى وغفر له، يفرد لنا حجة الوداع في كتيب عن حجة الوداع ويقول في عنوانه "برواية جابر". لم يفكر الشيخ رحمه الله في هذه المعضلة، وهي عنده ليست معضلة، فجل اهتمامه السند على طريقة من وضع قواعد قبول السند. وفي هذه القواعد أسئلة كثيرة، وفي تاريخ تدوين الحديث أسئلة كثيرة، يُحرِّم علماؤنا اليوم الدخول فيها.. علماً أن أول مدونة للحديث كانت صحيفة همام بن منبه على عهد عمر بن عبد العزيز، أي سنة مائة للهجرة.. فكيف يغيب الحديث قرناً ثم يبدأ التدوين، وكانت ذروة التدوين الذي نتمسك به في نحو 260 للهجرة، أي بعد وفاة البخاري ومجيء أصحاب السنن من مسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه ووو.. فهل كان ثمة وسائل لإشاعة الخبر للناس بأن هذه هي الأحاديث الصحيحة؟ وكم استغرق شيوع هذه السنن من وقت ليتداولها الناس ويتركوا ما سواها.. أسئلة كثيرة تحتاج إلى عقلاء باحثين بعيدين عن العواطف، فيبينوا لهذه الأمة ما وضعته هذه السنن من حرام وحلال ربما لم ينزل الله به سلطانا".انتهى كلام الأستاذ العمري، ولايمكن إلا التأكيد مرةً أخرى بأن الدفاع الحقيقي عن الإسلام ورسوله وسُنته لايكون إلا بالبحث الدقيق والعلمي في كل الأسئلة المشروعة، بعيداً عن المسارعة للتشكيك والاتهام، وعن تقزيم الإسلام بدعوى الخوف عليه.