14 سبتمبر 2025

تسجيل

الدخول من "أبواب متفرقة" قبل إعطاء "بعض ثمار المدينة"

07 يونيو 2015

ثمة وقت لابد فيه من إعطاء (بعض ثمار المدينة)، لكن الحسابات المتعلقة بهذا الموضوع يجب أن تكون دقيقة. فكما أن إلغاء هذه الفكرة بالكامل من الأذهان، والقرارات، يندرجُ في إطار مثاليةٍ طوباوية لا تصلحُ للتعامل مع العالم، يُصبح الاستعجال فيها، والاستسلامُ لإغراءاتها، مدخلاً لخسارات إستراتيجية قد تضيع معها كل الثمار.القصة معروفة في تاريخنا، ولا حاجة بنا إلى إعادة الحديث في تفاصيلها. لكن المقام اليوم هو مقام البحث في دلالاتها وأبعادها، خاصةً عندما يتعلق الأمر باستحضار المعاني الإستراتيجية الكامنة فيها لتنزيلها على واقعنا المعاصر.. فتاريخنا ليس مجموعةً من القصص المسلّية التي تحكيها الجدّات للأطفال في ليالي الشتاء الباردة أمام المدفأة قبل النوم، وإنما هو تجربة إنسانية معرفية تزخر بالمعاني والعبر، وبإشارات يمكن أن تكون مصدراً مهماً للفعل البشري على كل مستوى وفي كل صعيد.فمنذ الأيام الأولى لذلك التاريخ، كانت تأتي تلك اللحظات الصعبة التي يتوجب فيها اتخاذ قرارات في غاية الحساسية والخطورة تتعلق بمسألة (الوجود) نفسها. الأمر الذي كان – ولا يزال – يتطلب على الدوام، رؤيةً في غاية الشمولية، وحسابات في غاية الدقة، وقبل ذلك كله شعوراً بالمسؤولية في أعلى الدرجات.ذلك أن من طبيعة مثل تلك المراحل المفصلية أن تتسبب في مقادير من الضغط النفسي على أغلب البشر، وبشكلٍ تكون معه الشمولية في الرؤية والدقة في الحسابات في غاية الصعوبة. حتى عندما يتعلق الأمر بمتميزين يذكر التاريخ ردود أفعالهم في مثل تلك المواقف، وكيف كانت تتمحور على الدوام حول المقولة المشهورة: "ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ فلم إذاً نعطي الدنيّة؟".رغم ذلك، كانت الرؤية الشمولية، وكانت الحسابات الدقيقة، تستوعب العواطف المتأججة خلف تلك المقولة، وتربتُ على أكتاف أصحابها، وتُطيّب من خواطرهم، وتطلب منهم الصبر والرويّة، ثم تمضي في اتجاهٍ آخر، كان يَظهر بعد قليل، أنه الاتجاه الصحيح.ولكن، يأتي بعد كل هذا سؤالٌ كبير: ما الذي يضمن أن يكون القرار ويكون الفعل البشري في مثل تلك المراحل الحساسة مبنياً حقيقةً على رؤية شمولية، وناتجاً فعلاً عن حسابات دقيقة؟ ففي هذا الواقع الذي تداخلت فيه الأمور وتعقّدت فيه المعادلات، ينبغي التحفز دوماً لإمكانية الخلط بين المبادرة والاستعجال، وبين التروي والاسترخاء.ما هي العوامل التي يجب أن تكون متوافرةً اليوم، كي نقنع أنفسنا ونقنع الناس، أن القرار وأن الفعل البشري الراهن ينطلقان من شمولية الرؤية ودقة الحسابات، وليس من باب ردود الأفعال التي تستجيب للضغوط، وأحياناً بعشوائية بالغة؟ هذا سؤالٌ أساسي آخر.لماذا نُعطي بعض ثمار المدينة؟ ومتى نُعطيها؟ ولمن نعطيها؟ وكيف نعطيها؟ كل سؤالٍ من هذه الأسئلة، الصغيرة في صياغتها، يحتاج إلى دراسةٍ متأنية للبحث عن إجابةٍ موزونة بما هو أشبه بميزان الذهب. ذلك أن ثمار المدينة أغلى من الذهب نفسه بكثير، يعرف هذا تماماً أولئك الذين يتطلعون لأخذها. فتلك الثمار تعني الوجودَ والاستمرار والبقاء في نهاية المطاف.لهذا، يُصبح مفهوماً أن يقوموا بكل المناورات الممكنة للحصول عليها في أسرع وقت، وبكل طريقةٍ ممكنة، ودون مقابل. وأن يستخدموا كل أساليب التخويف والتهويل والضغط النفسي والعملي، المباشرة وغير المباشرة.من هنا تظهر ضرورة البحث عن كل (الأبواب المتفرقة) التي يمكن (الدخول) منها، قبل التفكير في إعطاء بعض الثمار، تجنباً لكل أنواع العقم الفكري والنفسي التي تصيب البعض، فتمنعهم من رؤية التنوع الهائل في مناشط الحياة البشرية وإدراك ارتباطاتها، وتحصرهم في أشكال تقليدية جامدة للتفكير والحركة لا ينظرون إلا عَبرها ومن خلالها إلى هذا العالم الكبير.ولو انتبه هؤلاء من غفلتهم، لأبصروا حجم الأغلال والقيود الوهمية التي تقيّد حركتهم، ويريدون لها أن تُقيد حركة الجميع. ولرأوا فسحةً في الوسائل والأساليب والمداخل، وفقهوا دعوة (يعقوب) عليه السلام، وشاهدوا تلك (الأبواب المتفرقة) التي لا يمكن تحصيلُ المصالح، وتغيير الواقع المهترئ الذي يشكون منه، إلا بالدخول منها جميعاً، بعيداً عن معاني الاستسهال والهزيمة والاستسلام، وعن قِصر النظر المتخفي في إهاب الحكمة ولبوس العُقلاء.بِلغةٍ أكثرَ وضوحاً، ندرك مُقتضيات الواقع العالمي المعاصر، وما يفرضه من حدود وحسابات وتوازنات ومعادلات حسّاسة. ونعترف بحقيقة وجود المصالح والاحتياجات والأدوار المتبادلة في عالم العلاقات الدولية. غير أننا نؤكد، مرةً أخرى، بقراءة منطق التاريخ، أن (العالمية)، مهما كانت، إنما هي في النهاية بَوتقة ووِعاء إنساني لمجموعةٍ ضخمة ومتنوعة من الخصوصيات المحلّية التي تُشكِّلُها، وأنّ من قوانين العلاقات الدولية الأساسية، أن يكون لكلٍ من تلك الخصوصيات وزنٌ ودورٌ وتأثيرٌ يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار. فالخصوصيات المحلية، الثقافية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ترسمُ أحياناً، وبعد استنفاد كلّ ما فيها من مرونة، سقفاً لا يُمكن تجاوزه لا من قِبلِ اللاعبين المحلّيين، ولا من قِبلِ اللاعبين الدوليين. والتعاملُ بواقعية مع هذه الحقيقة بحدّ ذاتها هو الذي يحفظ كثيراً من التوازنات والمعادلات التي أشرنا إليها قبل قليل.من هنا، باستطاعة النظام السياسي العربي الفاعل، ومن خلال ملفّ العلاقات الدولية المفتوح بقوة الآن، استحضارُ هذا المنطق بجدّيةٍ وحزم. وبحيث يتمُّ (التعاون)، فعلياً، للحفاظ على الحدّ الأدنى من ملامح الاستقرار والسلام والأمن العالمي المطلوبة من قبل الجميع. بعيداً عن الكلام النظري المُنمق عن ذلك (التعاون)، وعن الاستقرار والأمن والسلام.وإذا كان هذا يقتضي الاستمرار في استعمال منطق (القوة)، الناعمة وغير الناعمة، هنا وهناك، فإن المضي في هذا الطريق يُصبح خياراً ليس له بديل. خاصةً أن هذا المنطق يبدو مفهوماً أكثر من غيره لدى الكثيرين.