13 سبتمبر 2025

تسجيل

بؤس الليبرالية

07 مايو 2014

منذ أكثر من 200 سنة وصف آدم سميث مؤسس "الليبرالية الاقتصادية" سلوك معظم الليبراليين بأنه سلوك مخادع، فالليبراليون يحبون أن ينادوا بالاقتصاد الحر في الاجتماعات والمؤتمرات، ومع ذلك يطلبون خدمات من السياسيين سرا في البرلمان، ويؤكدون على حرية التجارة في العلن، ولكنهم يلتمسون من رجال الحكم أن يعاملوهم على نحو تفضيلي وأن يصطفوهم بامتيازات اقتصادية على نحو غير تنافسي في السر.هذه الطبيعة الملتوية والمراوغة لليبرالية "الاقتصادية" ظهرت للمصريين بوضوح خلال عهد مبارك، من خلال زمرة رجال الأعمال الذين أحاطوا به وبابنه، ولكن ربما لم يتح لهم أن يشهدوا التواء الليبرالية "السياسية" إلا في أعقاب ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث.فقد تابعنا في الفترة الماضية كيف صدع الليبراليون رؤوس المصريين بالحديث عن الدولة المدنية، قبل تحالفهم مع العسكر لتنفيذ انقلابهم على الدولة التي كانوا يتغنون بها، وكيف تحدثوا عن أهمية المساواة في الفرص، ثم قبولهم الاصطفاف مع أعداء الثورة في معسكر واحد لكي يحظوا بفرص أكبر للوصول إلى الحكم. وكيف تحدثوا عن قدسية المجال الخاص وعدم جواز انتهاكه أو انتهاك ما يرتبط به من حقوق، قبل أن ينتهكوا كل حقوق خصومهم المعروفة ويلقوا بهم في السجون أو يرسلوا بهم إلى أعواد المشانق، وكيف تحدثوا عن حرية التعبير، ثم قبولهم ان تكمم أصوات كل معارضيهم، وكيف تحدثوا عن الحق في المشاركة في الحياة السياسية، ثم قيامهم في عهد حكومتهم الليبرالية المدعومة عسكريا، بإصدار قرارات تصنف خصومهم على أنهم جماعة إرهابية، يمتنع على كافة أفرادها المشاركة السياسية أو مجرد الإفصاح عن قناعاتهم السياسية والأيديولوجية.كيف يمكن ان نفسر هذه الطبيعة الملتوية لليبراليين، هل ما ينادون به من مبادئ غير قابل للتنفيذ، ام أن ثمة مشكلة لدى الليبراليين أنفسهم؟ البعض يرى أن الفردانية الجامحة لليبرالين تجعلهم يتصورون أنهم في حل من الالتزام بأي مبادئ، بما في ذلك المبادئ التي يلزمون أنفسهم بها. فالليبرالي يؤمن أنه معيار الحق والباطل، وأنه لا يوجد مصدر لمعرفة الصواب والخطأ خارج حدود ذاته. هذا التمحور حول الذات هو ما يصور لليبرالي أنه لا مشكلة في أن ينادي بقيم وشعارات ومبادئ معينة ثم يكون هو أول الكافرين بها وأول الملتفين حولها.ولكن ثمة سببا محتملا أخر لمراوغات الليبراليين المستمرة، هو تكلفة الفرصة البديلة لديهم، فالليبرالي ينادي بالمنافسة النزيهة، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، ولكن التكلفة الواقعة عليه جراء هذا النوع من المنافسة كبيرة، خاصة أن مجرد المناداة بالمنافسة الحرة لا يضمن له الفوز بنتائجها. ولذا يميل الكثير من الليبراليين إلى الغش، تعجلا للفوز وإيمانا بأن الليبرالي هو أولى الناس بأن يجني ثمرة نضاله. إذ كيف يكون رافع شعار التعددية ثم يفشل إن هي وضعت موضع التنفيذ. ومرة أخرى فإن الليبرالي لا يرى أن هذا الغش أمرا مستهجنا، لأنه لو لم يغش فيمكن أن يفوز خصمه غير الليبرالي، ومن وجهة نظر الليبرالي فإن تكلفة فوز خصومه من غير الليبراليين تفوق تكلفة لجوئه للغش في مواجهتهم. تفسير أخير للسلوك الملتوي لليبراليين يرجعه إلى قلة أنصارهم في السوق السياسي، وهذه هي معضلة الليبراليين الكبرى في مصر، فهؤلاء ليست لهم الأرضية التي تمكنهم من المنافسة النزيهة، وعليه فقد جرى العرف على أن يكونوا أبرز المدافعين عن التعددية، وأن يكونوا في الوقت نفسه آخر المستفيدين منها، بفعل شح مؤيديهم، الأمر الذي يدفع الكثير منهم إلى اللجوء إلى الأساليب الملتوية، طمعا فى تحقيق فوز قد لا يأتي أبدا بغير هذه الأساليب! ولكن الليبراليين، من جانبهم، يؤكدون انهم لا يغشون فى المنافسة على المطلق، وإنما فقط إذا كان منافسيهم هم من الإسلاميين، ممن لا يمكنهم خوض منافسة شريفة معهم لعدة اعتبارات، أولها أن هذا التيار (الإسلاميين) معاد للتعددية أصلاً، ومن ثم لا يمكن خوض منافسة نزيهة ضده لأنه لا يعترف بقواعد اللعبة، فما إن يسمح له بالمشاركة والفوز حتى يسفر عن ميوله الاستبدادية، ويطيح بالتجربة التعددية برمتها. ولكن ما حدث فعليا بعد 25 يناير أن الإسلاميين قبلوا بقواعد اللعبة، وعرضوا أنفسهم على الناس في أكثر من استحقاق انتخابي، وحققوا نتائج باهرة، أما من نكص عن التسليم بقواعد اللعبة الأمر فهم الليبراليون، الذين كانوا يحاولون فى كل مناسبة القفز على إرادة الجماهير وفرض مجموعة من الحقائق عليهم. وعندما تمكنوا مؤخرا من بعض مفاصل الحكم فى أعقاب الانقلاب، شنوا حرب استئصال كاملة تجاه العناصر الإسلامية المعارضة، وقرروا — على ما يبدو— أن ينهوا ظاهرة الإسلام السياسي برمتها.التبرير الثاني الذي يسوقه الليبراليون لغشهم في المنافسة مع الإسلاميين هو أن الإسلاميين يتاجرون بالشعارات الدينية ويستحوذون بفضلها على ثقة البسطاء، ولهذا "يجوز خداعهم وغشهم وعدم احترام قواعد اللعبة معهم". ولكن هذه التهمة إن صحت في حق الإسلاميين فإنها تصح أيضا فى حق الليبراليين الذين طالما تاجروا بالشعارات الليبرالية البراقة، من قبيل الدولة المدنية، وحكم القانون، وقيم المواطنة. صحيح أنهم لم يقصدوا بهذه الشعارات ان يؤثروا على البسطاء أو أن يحصلوا على أصواتهم، ولكنهم قصدوا ما هو أسوا من ذلك، ألا وهو نيل رضا الحكومات الغربية ومؤسساتها المانحة. وقد تابع الجميع كيف سعت كثير من عناصر النخبة الليبرالية طوال فترة حكم الدكتور مرسي إلى استدعاء الخارج للضغط عليه والتعجيل بسقوطه.لكل ما سبق فإن ما يتناثر هذه الأيام من أخبار عن صحوة ضمير مفاجأة انتابت بعض الليبراليين ممن اكتشفوا أن نظام مبارك مازال موجودا، وأن ممارسات النظام الحالي تلغي مكتسبات ثورة يناير، وأنهم قد أخطأوا عندما وافقوا على الدستور الجديد، وأخطأوا عندما دعوا الناس للتصويت عليه، وأخطأوا عندما وثقوا في العسكر، أو عندما تخيلوا أن العسكر سينقذونهم من استبداد الإخوان فإذا بالعسكر أنفسهم يمارسون الاستبداد. كل هذه الأخبار لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، فالروغان لدى الليبراليين هو خاصية تكوينه، لا يمكنهم الانفكاك منها أو التخلي عنها حتى لو أرادوا ذلك.