15 سبتمبر 2025

تسجيل

رحلة رجال إلى الله "2 — 3"

07 مايو 2012

تكلمنا أولا عن عثمان بن طلحة رضي الله عنه وكيف كان نبيلا كريما وكيف بأمانة كان يسند إليه سدانة الكعبة والإشراف على شؤونها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. خطنا في الحديث أن لكل دوره الذي يمكن أن يميزه عن غيره ويحسنه أكثر من غيره ثانيهم هو عمرو بن العاص الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: "أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص" رواه الإمام أحمد والترمذي. وكان عمـرو بن العاص حاد الذكاء، قوي البديهة عميق الرؤية، حتى ان أمير المؤمنين عمر كان إذا رأى إنسانا عاجز الحيلة، صـكّ كفيه عَجبا وقال: {سبحان الله! إن خالق هذا وخالق عمرو بن العاص إله واحد}. كما كان عمرو بن العاص جريئا مِقْداما، يمزج ذكاءه بدهائه في سعة حيلة يُخرج بها نفسه من المآزق المهلكة، وكان عمر بن الخطاب يعرف ذلك فيه، وعندما أرسله الى الشام قيل له: {إن على رأس جيوش الروم بالشام أرطبونا}. أي قائدا وأميرا من الشجعان الدُّهاة، فكان جواب أمير المؤمنين: {لقد رمينا أرْطَبون الروم بأرْطَبون العرب، فلننظر عمَّ تنفَرج الأمور}. ولقد انفرجت عن غلبة ساحقة لأرطبون العرب وداهيتهم عمرو بن العاص على أرطبون الروم الذي ترك جيشه للهزيمة وولى هاربا الى مصر. فذلك الرجل الشجاع والذكي المؤمن كان يحمل قدرا كبيرا من الخلق والصفات التي تجعله خليقا بالإمارة. وتبرز فروسية عمرو رضي الله عنه في وقت وقوع المواجهة بينه وبين المقوقس إذ وقعت ابنته أرمانوسة في الأسر وهي ببلبيس وخافت من معها من النساء من تسلط جنود المسلمين عليهن خوفا قسنه على تسلط جنود الرومان الذين يحاربهم عمرو ليحرر منهم قبط مصر فقالت المرأة: (لأنْ تخاف المرأة على عِفَّتِها من أبيها أقربُ من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي). وقد صدقت فِراسَةُ أرمانوسة؛ إذ إنَّ عمرو بن العاص أرسل أرمانوسة وجميعَ مالِها وخدمها معزَّزَةً مكرَّمة إلى أبيها المقوقس، في حراسة جند الإسلام، بقيادة قَيْسِ بن أبي العاص السَّهْمِيّ. ذاك رجل يعرف أسس القيادة والتأثير والتفاوض.. ولو شاء لاستغلها ورقة ضغط ولا يلام.. فقد وقعت في أسره والأسير يفدى.. لكن اطلاقها أقرب للخلق الحسن وأفضل للتأثير ولقد صرح بهذا الفاروق — الذي يعرف أقدار الرجال ولا يجامل أحدا — فقال حين رآه وهو مقبل فابتسم لِمَشْيَته وقال: {ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا}. ولقد حكم مصر بعدما فتحها وظل حكمه عليها خيرا؛ أسس المدن ونظم الزراعة وابتكر القنوات والترع وضبط السقيا وأغنى الناس وكسب ودهم وأظهر التسامح مع النصارى فلم يأمنوا على أنفسهم إلا في عهده ودخل الناس في دين الله تعالى أفواجا بعد أن كان قوام جنده لا يتعدى ثمانية آلاف مجتمعين وكان فتح مصر — ولا يزال — محل خير وبركة على مصر وعلى إفريقيا وعلى العالم كله فجزاه الله تعالى خير الجزاء.. ولئن كان منه بعض التجوز بمقاييس عمر فإن عمر رضي الله عنه كان يقومه ولا يعزله لأن صفاته الكريمة وحسن قيادته تغلب ما سواها. وفي السنة الثالثة والأربعين من الهجرة، أدركت الوفاة عمرو بن العاص بمصر حيث كان واليا عليها، وراح يستعرض في لحظات الرحيل حياته فقال: {كنت أول أمري كافرا، وكنت أشد الناس على رسول الله، فلو مِتّ يومئذ لوجَبَت لي النار، ثم بايعت رسول الله، فما كان في الناس أحد أحبّ إلي منه، ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئِلْتُ أن أنْعَتَه ما استطعت، لأني لم أكن أقدر أن أملأ عيني منه إجلالا له، فلو مِتّ يومئذ لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم بُليت بعد ذلك بالسلطان، وبأشياء لا أدري أهي لي أم عليّ}. ثم رفع بصره الى السماء في ضَراعة مناجيا ربه الرحيم قائلا: {اللهم لا بريء فأعْتذِر، ولا عزيز فأنْتَصر، وإلا تُدْركني رحمتك أكن من الهالكين}. وظل في ضراعاته حتى صعدت الى الله روحه وكانت آخر كلماته: لا إله إلا الله.. وتحت ثَرَى مصر ثَويت رُفاتُه...فذاك ثاني الرجال الذين نتحدث عنهم.