13 سبتمبر 2025

تسجيل

دار فور.. وديار العرب

07 مارس 2009

لاتحبُّ (العدالة الدولية) الملابس الجاهزة.. وإنما تُفضّلُ دائماً أن ترتديها (مفصلةً) حسب المقاس.. وبما أن العدالة المذكورة كانت على الدوام من أهل العزّ والرقيّ، فإنها لاتحب إلا تلك الملابس التي تخيطها أناملُ أمهر (الفنانين) في مدن العالم الكبرى، من باريس إلى نيويورك مروراً بلندن وغيرها من حواضر العالم التي تجيد هذه الصناعة كما لا يجيدها أحدٌ آخر.. باتت صناعة العدالة الدولية صناعةً دقيقةً وحسّاسة.. تماماً كما هي صناعة الساعات السويسرية الراقية. وإذا تُرك أمرها لكلّ من هبّ ودبّ على هذه الأرض، فسرعان ما تصبح الأمور فوضى.. دع عنك التفكير في الفوضى التي خلقَتها تلك المدن والعواصم بين الناس خلال القرون الماضية، حروباً كونية ومعارك إبادةٍ ودمار للبشر ولكوكبهم.. وحاول أن تنسى الفوضى الاقتصادية والمالية الماحقة التي يعيشها العالم بأسره اليوم، بسبب ممارسات وسياسات الحواضر المذكورة حصراً. ولا تبالغ في الحديث عن تأثير هذه الفوضى في حياة عشرات الملايين من البشر، وما تعانيه وستعانيه لسنوات قادمة، جوعاً وفقراً وبطالةً ومرضاً وتشريداً، وحياةً يبدو الموتُ مقارنةً بها رحمةً من السماء.. فهذه فوضى (منظّمة).. حدثت نتيجة خطأ بسيطٍ في الحسابات.. وبما أن مصدرها هم أهلُ العلم والمعرفة فإنهم أدرى بها وبكيفية إصلاحها. دع عنك هذا كله. وركّز الآن على تألّق العدالة الدولية في أزمة دارفور. تأمّل كيف تتجلى في أبهى حللها.. وكيف ترتقي إلى علياء مجدها حين تصل إلى درجةٍ من القوة والشجاعة تُمكّنها من ملاحقة رئيس دولةٍ ليقف صاغراً أمام ميزانها المُبجّل. لا يوجد حقاً مشهدٌ يدلّ على إتقان (التفصيل) لثوب العدالة الدولية كما هو الحال في مشهد قضية دارفور. وأجمل ما في الأمر حين تأتي (الحياكة) بعدّة طبقات: ترمي أناملُ الخياطين الأساسيين بخيوط الثوب إلى مجتمعٍ دولي فيه الكثير من المخلصين لرسالة العدالة أفراداً ومؤسسات. ترميه وهي تعرف مدى رغبتهم بتحقيق أشواقهم فيما يتعلق بتلك الرسالة. ترميه وهي تدرك حجم الحدود المفروضة عليهم لتحقيق تلك الأشواق في ألف مجالٍ آخر. تفتحُ لهم هذا الباب بعد أن أغلقت في وجوههم جميع الأبواب الأخرى. فيلتقط هؤلاء الخيوطَ المذكورة كما يلتقط الظمآن قطرة ماءٍ تروي عطشه. ويبدؤون عن حُسن نية في حياكة الثوب. وسرعان ما يختلط في الموضوع حابلُ الإخلاص بنابلِ المؤامرات والمخططات. هكذا، تضع العدالة الدولية العرب قبل غيرهم أمام حالة حصار داخل ديارهم: فإما أن تقبلَ أيها العربي ازدواجية المعايير وكلّ مظاهر النفاق والتزييف السائدة في النظام الدولي إلى درجةٍ تثير الاشمئزاز والقرف. أو أن ترفضَ هذا الوضع، فتُصبح رجعياً ماضوياً مدافعاً عن الظلم والدكتاتورية، ورافضاً لحرية الشعوب والمجتمعات. تنقل العدالة الدولية بمهارتها المعهودة السجالَ إلى ساحة الواقع الثقافي والسياسي العربي بطريقة (مع) أو (ضد). وتضيعُ في مثل هذا السجال أسئلةٌ كثيرةٌ مشروعة: ماذا يعني أن تكون الدولة المستهدفة هي السودان؟ سيقولون لك انك تختزل السودان في شخص رئيسه. حسناً. ماذا يعني ألا يشهد هذا البلد العربي، رغم تغيّر حكّامه، لحظة هدوء منذ أن فكّر العرب أن بإمكانه أن يُصبح وحدهُ سلّة غذائهم وراودتهم أوهامٌ بتطبيق هذه الفكرة منذ أكثر من ثلاثة عقود؟ وماذا يعني إيقادُ نارٍ جديدة للحرب فيه كلما عمل أهلهُ على إطفاء نارٍ سابقة؟ وماذا يعني أن يتزامن ظهور حركات التمرد والثورة فيه مع ظهور الثروة من النفط إلى اليورانيوم داخل أرضه؟ سيقولون لك إن هذا كله لا يعني شيئاً.. وإنما هو محضُ مصادفاتٍ ليس لها علاقة بالموضوع بالنسبة للعدالة الدولية المطهّرة بلبوس الحياد والنزاهة، والمكلّلة بِغارِ العفّة والأمانة، والمسكونة بهمّ رفع الظلم والحيف عن مليوني ونصف عربي ومسلم، كما صرّح مندوبها السامي السيد أوكامبو.. حسناً. إذا كانت المسألةُ مسألة دفاعٍ عن العرب المسلمين، لماذا لم ترَ عين العدالة الدولية مجازر غزة الموثقة بالصوت والصورة؟ ولماذا لم تأخذ دلالاتها بعين الاعتبار؟ لماذا وَجَدت العدالة الدولية أن المشاهد المذكورة حمّالةُ أوجه، وأن القضية فيها نظر، وأن من الممكن تماماً أن يختلف فيها فقهاء القانون؟ ولماذا اشتدّت قوة بصر تلك العدالة وبصيرتها ولم تتردد عندما تعلّق الأمر بشهادات أفرادٍ في موضوع دارفور، فصارت هذه الشهادات لديها أكثر توثيقاً من صورٍ وقصصٍ رآها وسمعها الملايين؟ لماذا يُصبح بصرُ العدالة الدولية حاداً مثل بصر (زرقاء اليمامة) التي ترى ما لا يراه الآخرون. ثم تشعر في بعض الحالات أن تلك العدالة أقرب إلى العمى أو أنها عوراءُ في أحسن الأحوال؟ لماذا ترى مخالبَ العدالة الدولية وأظافرها فتظّنها وحشاً قوياً كاسراً في لحظةٍ معينة. بينما تنظر إليها في باقي الأوقات فإذا بها تُمسي هرةً صغيرة مقلومة الأظافر لاتهشُّ ولا تنشّ؟ لماذا تُصبح ذراع العدالة الدولية طويلةً تصل إلى كل مكان في وقتٍ من الأوقات. ثم نجدها بقية الزمن مقيدةً بالأصفاد والأغلال أو مكسورةً ومربوطةً إلى عنقها، حتى يُشفق عليها المرء وهي تبدو مسكينةً عاجزةً عن الوصول إلى شيء؟ لماذا يرتفع صوت العدالة الدولية من حينٍ لآخر فيصبح عالياً مثل صوت مغنيات الأوبرا. لكنه في أغلب الأحيان يبدو أقرب إلى الحشرجة. وربما تحاول أن تتبين الأمر فتدرك بأن تلك العدالة أصبحت خرساء بكماء؟ لماذا يكون متحف المحرقة اليهودية في واشنطن أبرز مكان لتجمّع (النشطاء) الذين يريدون التضامن لإنقاذ أولئك العرب والمسلمين المساكين في دارفور؟ ولماذا يضم تحالف إنقاذهم أكثر من 45 منظمة يهودية بينها منظماتٌ متطرفة بشكل معروف في كراهيتها للعرب والمسلمين؟ وماذا تفعل في هذا التحالف منظماتٌ مثل (منظمة المرأة للإصلاح اليهودي) و(اتحاد الإصلاح اليهودي) و(المجلس الكندي للإصلاح اليهودي) و(اتحاد اليهودية التقليدية) و(التحالف التقدمي اليهودي) و(منظمة العمال اليهود) و(اتحاد المنظمات العلمانية اليهودية)؟!! لايجوز لعاقلٍ يدعو إلى التعارف البشري أن يرفض ابتداءً مشاركة اليهود أو غيرهم في مثل هذه القضايا. لكن هذه (التوليفة) الغريبة تفرض طرح السؤال والبحث عن إجابة عليه. خلاصة الأمر أن (العدالة الدولية) مخلوقٌ عجيب من مخلوقات هذا العصر.. مخلوقٌ هجينٌ أشبه بالروبوت.. يُصاب بالبيات الشتوي سنوات، ثم تدبُّ الروح فيه فجأةً وتعود إليه الحياة حسب الطلب. مخلوقٌ لاتستطيع أن تنكر وجوده ودوره وهو يحمل هذا الاسم الجميل الذي يخاطب أشواق البشر في كل مكان. لكنك ترى أفعاله فتشعر وكأن المقصود منها إفراغ معنى العدالة من مضمونه أكثر من أي شيئٍ آخر. ليست مشكلة العرب مع السيد أوكامبو رجل القانون الأرجنتيني المرموق الذي كان يُعرف في بلاده بصائد الجنرالات. ولا يستطيع أحدٌ القول بأن السودان بريءٌ كلياً من الممارسات الخاطئة في مسألة دارفور. لكن مشكلة العرب الأساسية تكمن في طريقة التعامل مع ذلك المخلوق العجيب الذي قد يصبح وحشاً يبدأ بالتهام دارفور ثم يمضي في إشعال الحرب في دُورِهم واحداً تلو الآخر. [email protected]