17 سبتمبر 2025
تسجيللا يمكن لأي مراقب أن يصف ما حدث بالإمارات قبل أيام، سوى أنه التناقض بين الظاهر والباطن لا غير، تقوم به أبوظبي. الاسم الذي صار يترافق تلقائياً مع مصطلحات المآسي والكآبة مثل السيسي، حفتر، حرب اليمن، ثورات قمع الربيع العربي، حصار قطر، وغيرها من أزمات وخلافات ومشكلات. أن تقوم أبوظبي بتنظيم مؤتمر دولي يقوم عليه مجلس ما يسمى "بحكماء المسلمين" يدعو للتسامح ويصدر وثيقة ما سمي بالأخوة الإنسانية، هو أمر ضارب في التناقض. إذ لو أن هذا الأمر كان قد صدر عن دولة مشهود لها بالانسجام مع البعيد قبل القريب، وتشهد أعمالها وسياساتها الداخلية والخارجية على رقيها وبلوغها قمة التسامح، كان يمكن الترحيب بالمؤتمر وما يصدر عنه. لكن أن تقوم أبوظبي بهذا الدور، فهذا هو التناقض، بل لا شك أنه أقرب إلى حملة علاقات عامة دولية لتلطيف وتنظيف صورة أبوظبي، التي تشوهت عند عموم العرب والمسلمين، فكان لابد من اللجوء إلى عالم النصارى الكاثوليك، واستخدام رمزهم الديني، فلعلها تثمر!. قام بتوقيع الوثيقة وبالنيابة عن النصارى الكاثوليك في العالم، بابا الكنيسة الكاثوليكية، البابا فرانسيس. فيما تم اختيار شيخ الأزهر، أحمد الطيب، ليمثل المسلمين ويوقع على الوثيقة، باعتبار الأزهر مؤسسة دينية علمية، ولكن من قال بأن الأزهر يمثل اجماع المسلمين اليوم، لا سيما وقد تحول لمؤسسة تحت سيادة سياسية مصرية، ولم تعد بتلك المكانة المؤثرة كما عُرف عنها في أوقات مضت من التاريخ، حتى يجتمع المسلمون عليها. ماذا في الوثيقة من فقرات؟ "باسم الله، يعلن الأزهر الشريف - ومن حوله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها - والكنيسة الكاثوليكية - ومن حولها الكاثوليك من الشرق والغرب - تبني ثقافة الحوار درباً، والتعاون المشترك سبيلاً، والتعارف المتبادل نهجاً وطريقاً". ومن يقرأ سيرة أبوظبي في السنوات السبع الأخيرة، يدرك أنها في طريق، والحوار والتعارف في طريق آخر لا يلتقيان. فكيف يمكنها تبني ثقافة الحوار درباً ونهجاً، وهي بعدُ ماضية في نشر ثقافة الاستبداد والقمع والكراهية أينما وضعت أقدامها وأنفقت أموالها؟! ثم في فقرة أخرى تقول: "إننا نحن - المؤمنين بالله وبلقائه وبحسابه - ومن منطلق مسؤوليتنا الدينية والأدبية، وعبر هذه الوثيقة، نطالب أنفسنا وقادة العالم، وصناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي، بالعمل جدياً على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فوراً لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حالياً من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي". دعوة جميلة.. لكن أين أبوظبي من أقرب الجوار إليها؟ التسامح غائب عن قاموسها السياسي في كل ما يرتبط بقطر منذ أكثر من ستمائة يوم على حصارها، دون أدنى اعتبار لعلاقات ووشائج القربى والدين والأخوة الإنسانية. كيف تريد أبوظبي من العالم أن يتبنى مواد هذه الوثيقة، في وقت لا تزال تدعم الفوضى الحاصلة باليمن عبر الإصرار بالبقاء في سمائه وأرضه، والذي صار قاب قوسين أو أدنى من كارثة إنسانية حقيقية واقعة.. كيف تريد أبوظبي اقناع العالم بتسامحها وهي لا تزال تدعم فوضى ليبيا عبر احتضان حفتر وميليشياته، أو العبث في تونس عبر أموالها أو غيرها من مواقع عربية، لا تزال تلعب اليد الظبيانية الخفية والجهرية في سياساتها ومقدراتها، والتي لم تزدها غير تخسير. اللعب على التناقضات ليس بالأمر الذي يصعب كشفه أو التنبه إليه، وهذا ما تقوم عليه أبوظبي.. تقتل وتشرد من جهة، وتدعو للتسامح من جهة أخرى. تسجن وتعذب وتتهم إخوة مسلمين بالإرهاب، ثم تدعو للتعايش مع جميع الملل والنحل إلا المسلمين! . أبوظبي وقد ضاق صدرها ثم في موضع آخر من الوثيقة تأتي كلمات جميلة تفيد بأن "الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية التي تحاصر جزءاً كبيراً من البشر". نعم كلنا يقول ذلك، لكن وكي لا نبتعد كثيراً عن أرض الواقع، فإن أبوظبي التي أعلنت ودعت وكتبت هذه الوثيقة، هي أكثر من ضاق أفقها وصدرها بالرأي الآخر، وأحرارها خلق القضبان من أبرز الأدلة. وبالمثل حين يوقع شيخ الأزهر، أحمد الطيب على مواد هذه الوثيقة، هو يدرك في نفسه تماماً أنه جاء من العاصمة التي فيها الأزهر، حيث صدور عسكرها وساسة أمرها، أشد ضيقاً وحرجاً من نظرائهم في أبوظبي. فأي ثقافة يدعون إليها، وهم يعيشون التناقض ذاته؟ ثم في فقرة أخرى تشدد وثيقة الأخوة الإنسانية وتعلن بحزم: "أن الأديان لم تكن أبداً بريداً للحروب أو باعثة لمشاعر الكراهية والعداء والتعصب، أو مثيرة للعنف وإراقة الدماء، فهذه المآسي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية، ونتيجة استغلال الأديان في السياسة". كلنا يقول: لا استغلال للأديان في أغراض السياسة. لكن الجهة القائمة على مؤتمر الأخوة الإنسانية - وهي مجلس حكماء المسلمين ومقره أبوظبي- هو نتاج استغلال واضح ومفهوم للدين في أغراض سياسية، خاصة بعد تصادم أبوظبي مع أكبر الجماعات الإسلامية وهي "الإخوان المسلمون"، ورفعها راية التصدي لها في كل مكان، فكانت إحدى نتائج تلك العداوة غير المبررة ذاك المجلس الذي لم يظهر إلا حديثاً، ليكون أداة شق صفوف العلماء المسلمين الذين تجمعوا منذ 2004 تحت اسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليكون "مرجعية شرعية أساسية في تنظير وترشيد المشروع الحضاري للأمة المسلمة، في إطار تعايشها السلمي مع سائر البشرية". ولأن أغلب المنتمين إليه من رموز الإخوان وجبت محاربته، بل وإنشاء كيان بديل عنه، وهو أمر لا يمكن أن يكون خارج الأجندات السياسية لعاصمة المقر أبوظبي، مثلما في الوقت ذاته وثيقة الأخوة الإنسانية، التي لا يمكن أن تخرج عن إطار "التكتيكات الظبيانية" ضمن إستراتيجية بعيدة المدى تسعى إليها الإمارة منذ قيام الثورات المضادة للربيع العربي، حيث لم تعد تلك التكتيكات خافية على أي متابع لنشاطاتها في أي اتجاه يمكن للبوصلة المغناطيسية أن تشير إليها. [email protected]