30 أكتوبر 2025
تسجيلقد نحتاج زمنا طويلا كي يتلاشى من ذاكرتنا مشهد القتل حرقاً للطيار الأردني معاذ الكساسبة، لا شيء يمكن أن يقال مع الصورة التي كانت أقوى من أي تعبير قيل حينها أو قد يقال فيها يوماً. لعل المشهد وضعنا جميعا أمام ضغط السؤال الأخلاقي: كيف لمن تلمس لتنظيم الدولة الإسلامية أعذاراً حول أفعاله المستنكرة والغربية وجهد في البحث عن مبررات فقهية لأفعاله يوما ما، أن يبرر هذا السلوك المشين، وقد تجاوز إرهاب التنظيم كل معقول؟! ما الأهداف التي كان يسعى لها تنظيم داعش من توثيق طريقة قتل الكساسبة؟ هل تفكيك التحالف الدولي؟ هل دفع الأردن إلى ردّ فعل عنيف يفقده توازنه ويظهره بمظهر الضعيف المرتبك الفاقد للرؤية والمكشوف أمام خلايا افتراضية داعمة للتنظيم؟ لا شيء من تلك الإجابات قد يهم مع هذا الانهيار الأخلاقي التام لهذا التنظيم والذي يعكس بشكل ما جزءا من هذه الثقافة القائمة على القتل والتشفي والسحق التام وإهدار كل ذرة كرامة يحملها الخصم المفترض؟! وقد جاءت فتوى شيخ الأزهر التي دعت إلى قتل وصلب وتقطيع أطراف أعضاء تنظيم الدولة صادمة ومشابهة لنفس الفعل المستنكر، وهذا ما يطرح إشكالية كبيرة حول طبيعة هذه الفتاوى والتي منها يستقي هؤلاء أفكارهم وطروحاتهم، وكيف تنتقى وتوظّف بشكل لا يحقق المقاصد العليا التي جاء بها الدين الإسلامي الحنيف. ولا نكاد نخرج من سؤال أخلاقي ملحّ حتى نقع في سؤال أخلاقي آخر، إذ كيف تلقت "البيئة الحاضنة" لداعش طريقة قتل الطيّار الكساسبة؟ وما الأسباب التي تدفع مجتمعات لاحتضان هذه المجموعات؟ لا شك أن البيئات الحاضنة لتنظيم الدولة وجدت صعوبة في تقبل الطريقة التي تمّ فيها قتل "الكساسبة"، وسعت لتقديم المبررات والأعذار وإيجاد المخرجات الفقهية، وأي متابع لمواقع التواصل الاجتماعية يلحظ ذلك بوضوح وهو ما يجعلنا أمام خطر محدق كبير يجرف المجتمعات بأكملها. ويُطلق مصطلح "البيئات الحاضنة " لتنظيم ما على مناطق جغرافية محددة أو شريحة مجتمعية، تلعب دور الداعم المادي أو المعنوي للتنظيم على أفعاله، والبيئة الحاضنة تحتضن عناصر التنظيم وتتستر عليهم في أوقات الانحسار، وترفده بعناصر جديدة أثناء التمدد.والبيئات الحاضنة لا تقتصر على المناطق المضطربة مثل سورية والعراق واليمن بل توجد في بيئات مستقرة نسبيا أمنيا وسياسيا واقتصاديا كما هو الحال وسط بعض الجاليات الإسلامية في الدول الغربية. وإذا كانت البيئات الحاضنة للتشدد والتطرف تختلف عن بعضها تبعا لاختلاف البلد أو الشريحة المجتمعية، أو طبيعة المنطقة الجغرافية أو هوية التنظيم نفسه إلا أنها تشترك ببعض الخصائص مثل: غلبة التدين، تكاثر الضغوط المجتمعية، الاضطرابات السلوكية خاصة عند فئة الشباب، عدم التكيف مع المتغيرات من حوله، الشعور بالتآمر الخارجي، القلق على الهوية والمصير، الخضوع السريع للمؤثرات الخارجية (وسائل إعلام، مواقع إلكترونية..)، وفي أغلب هذه التجمعات البشرية تكون فكرة الدولة والشعور بالانتماء إليها غائبة أو شبه غائبة. تسعى التنظيمات المتشددة في إيجاد بيئات حاضنة إلى استغلال جميع المؤثرات التي قد تتحكم بالمناخ العام للبيئة المستهدفة، عبر سياسة العصا والجزرة. وهي تحاول عقد شراكات مع قوى داخل المجتمعات، تعد بالكثير، وتهدد بالوعيد، وتمدّ بالأموال. المرتكزات التي تقوم عليها البيئات الحاضنة تتمثل في الموروث التاريخي، وعملية الضغط المجتمعي التي تمارسها التحديات الاقتصادية. فضلا عن فشل الدولة في تحقيق نمو سياسي سليم، والقبضة الأمنية التي تدعو كل فرد للشك بنفسه وبمن حوله. وقد خلقت السياسات المتبعة في عالمنا العربي مجتمعات متفسخة أشبه بجزر بشرية متناثرة تفتقد لأدنى مقومات التضامن والتعاضد والشعور بالمسؤولية تجاه الوطن الدولة. ثم إن حركات الإسلام السياسي تتحمل في جزء كبير المسؤولية عن تسرب أفكار التطرف إلى عقول الشباب وحدثاء السن. ليس من المبالغة القول إننا نعيش فشلا أخلاقيا وتفككا مجتمعيا على كافة الصعد، وإن أفعال تنظيم الدولة ليست إلا إرهاصات لما ستكون عليه مجتمعاتنا عند كل اختلاف بين تياراتها وأحزابها ونظمها إذا لم يعد النظر بكلّ السياسات والمبادئ والمسلمات التي تربى عليها الصغير وفني عليها الكبير!.