19 سبتمبر 2025

تسجيل

العقل المنفتح والحضاري "التونسي" يسقط الإرهاب

07 فبراير 2014

شكلت عملية اغتيال المعارض اليساري الشهيد شكري بلعيد الذي تحيي تونس ذكراه الأولى الخميس 6 فبراير الجاري، اغتيالاً للثورة التونسية، ولطموحات وآمال الشعب التونسي في تحقيق أهداف ثورته الديمقراطية، وجريمة دولة بامتياز، وهي سابقة خطيرة في تونس، إذ لأول مرة تشهد البلاد التونسية حالة من هذا الاغتيال السياسي لشخصية وطنية معارضة تنتمي إلى اليسار التونسي الراديكالي.. كما شكلت عملية الاغتيال تلك، بداية سنة من الاضطرابات السياسية والأمنية في هذا البلد الخارج للتو من أزمة سياسية حادة مع إقرار دستوره الجديد في 26 يناير 2014. وبعد سنة تقريباً من هذه الجريمة السياسية النكراء، عادت تونس لتشهد مواجهات دامية بين قوات الحرس الوطني، وفرقة مكافحة، ومن جهة وعناصر إرهابية مسلحة متخندقة في منطقة رواد في محافظة أريانة شمالي تونس العاصمة، من جهة أخرى، قبل يومين كذلك من الذكرى السنوية الأولى لاغتيال السياسي المعارض البارز شكري بلعيد، وأسفرت هذه المواجهات التي دامت 20 ساعة عن مقتل سبعة "عناصر إرهابية"، من بينهم كمال القضقاضي، وهو المتهم الأول في اغتيال بلعيد ومن بعده النائب المعارض محمد البراهمي في 25 يوليو2013، ومقتل العريف عاطف الجبري (29 عاماً)، وهو من عناصر الوحدة المختصّة في مواجهة الإرهاب التابعة للحرس الوطني التونسي. وفي مؤتمر صحفي عقده وزير الداخلية التونسية السيد لطفي بن جدو- مساء الثلاثاء 5 فبراير الجاري، أعلن هذا الأخير، أن المتهم بقتل المعارض التونسي شكري بلعيد قتل خلال عملية لمكافحة الإرهاب، وذلك بعد نحو عام على جريمة الاغتيال.. وأكد وزير الداخلية أن "القضقاضي هو من اغتال الشهيد شكري بلعيد"، موضحا أنه تم التأكد من هويته "في شكل علمي" علما أنه تم التعرف إلى هوية خمسة من سبعة مشتبه بهم قتلوا.. وقال السيد لطفي بن جدو، خلال كلمته، إنّ "محاربة الإرهاب خيار وطني يجب على جميع التونسيين الانخراط فيه"، معتبراً أنّ "خبر مقتل كمال القضقاضي هو بمثابة أفضل ما يمكن تقديمه إلى التونسيين لمناسبة مرور عام على اغتيال الشهيد شكري بلعيد.. وقال أيضا "أردنا أن نتجنب مقتل (المسلحين) وطلبنا منهم الاستسلام، لكن كلا منهم كان يحمل أسلحة رشاشة وقنابل يدوية وأحزمة ناسفة". في حصيلة سنوية، أدّت العمليات لإرهابية المختلفة التي نفذتها العناصر المرتبطة بتنظيم «أنصار الشريعة» خلال عام 2013 بحسب الأرقام الرسمية التونسية إلى اغتيال الشهيدين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إضافة إلى استشهاد 24 عنصراً أمنياً وعسكرياً، وكذلك إصابة عدد آخر هام من أعوان الأمن والعسكريين بسبب انفجارات الألغام وهي إصابات طالت أرجل الأمنيين وطالت المدرعات العسكرية.. في المقابل، تم إلقاء القبض بحسب المصادر عينها- على حوالي 885 إرهابيّا وتصفية 20 عنصراً منهم.. وفي سياق منفصل، تطرق الوزير التونسي إلى الحصيلة الأمنية لوزارة الداخلية خلال العام الماضي، موضحا أنه تم إحباط محاولة سفر أكثر من ثمانية آلاف شخص نحو سوريا، كما تم القبض على 190 شخصا من قبل وحدات الأمن الداخلي و293 من قبل الحرس الوطني من الضالعين في شبكات الإرسال إلى سوريا.وفي دراسة بعنوان: "المقاتلون الأجانب في سوريا وجنسياتهم"، أوردت الدراسة أن تونس احتلت المرتبة السادسة، بـ4 آلاف مقاتل تمت تصفية 2645 منهم وسجل 1315 كمفقودين. والملاحظ في هذه الإحصائية أن تونس تصدرت أعداد القتلى النساء 18 امرأة تونسية لقيت مصرعها في سوريا.. والحال هذه، تتفوق تونس في هذا الترتيب على دول عديدة معروفة بتصديرها للإرهاب وللإرهابيين مثل اليمن وباكستان وأفغانستان والصومال. وجاءت الثورة التونسية ذات الطابع السلمي التي أسقطت نظاماً أمنياً ديكتاتورياً لتؤكد هذه المقولة، وهي رفض المجتمع التونسي للعنف بكل أشكاله وصوره، غير أنه منذ أن استلمت حركة النهضة الإسلامية السلطة في تونس عقب الانتخابات التي جرت في 23 أكتوبر 2011، بدأت مظاهر العنف السياسي تنتشر في تونس، لاسيَّما من جانب السلفيين الجهاديين، إضافة إلى العنف الذي تمارسه الجماعات السلفية الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.. هناك العنف السياسي الذي تمارسه ميليشيات حركة النهضة الإسلامية، الملقبة بـــ «رابطات حماية الثورة»، والتي تدعي أنها تدافع عن أهداف الثورة، لكن ممارساتها القائمة على محاولات الاستفزاز المتكررة، والتحريض على الكراهية، واللجوء إلى استخدام العنف السياسي المُمَنْهَج والمُنَّظَم وفق مخطط سياسي مدعوم من حركة النهضة، تستهدف إرهاب وتخويف أحزاب المعارضة الليبرالية واليسارية، والنقابات التونسية الوازنة في البلاد، وقوى المجتمع المدني الحية، والدفع بالمسار الانتقالي إلى مربع العنف السياسي، في ظل الحصانة من المحاسبة والمساءلة القانونية. من وجهة نظر المعارضة اليسارية والقومية والليبرالية، شكل اغتيال بلعيد منعطفا في تونس، لأن هذه الجريمة هي أيضاً بالنسبة للمعارضة دليل على تحالف حركة النهضة مع التيارات الجهادية التكفيرية، التي صعدت تحركاتها منذ ثورة 2011..ورغم محاولة رئيس الوزراء في حينها، الإسلامي حمادي الجبالي، تشكيل حكومة تكنوقراط قبل أن يستقيل أمام معارضة حزبه، وتولى وزير الداخلية علي العريض منصب رئيس الوزراء، ما أثار استياء الشعب والمعارضة، فإن تغول الإرهاب في تونس، كشف للتونسيين أن الثورة التونسية التي فجرت ربيع الثورات العربية، تم إجهاضها من قبل حركة "النهضة"، التي ظهرت على حقيقتها، من أنها لا تمتلك لا مشروعا سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو حضاريا لديها باستثناء الاستحواذ على السلطة، بل إنها استغلت وجودها في السلطة منذ أكثر من سنتين لزرع التابعين لها في أجهزة الدولة، ولاسيَّما في وزارة الداخلية، واستخدام تنظيم "أنصار الشريعة" من أجل تصفية رموز المعارضة اليسارية والقومية والليبرالية. لم تنتهج حركة النهضة الإسلامية السياسة الحكيمة التي كان يتوجب أن تنتهجها في الداخل التونسي، ألا وهي العمل على بناء الدولة الديمقراطية التعددية، وإقرار دستور ديمقراطي توافقي للجمهورية الثانية في تونس يؤكد على مدنية الدولة، والعمل على الانخراط في إستراتيجية وطنية وإقليمية لمحاربة الإرهاب، باعتباره المخرج الوطني والديمقراطي للأزمة السياسية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد، بل وظفت وصولها للحكم من أجل السيطرة على مفاصل الدولة، وكسب الشرعية الدولية من خلال التودد للولايات المتحدة الأمريكية (زيارة الشيخ راشد الغنوشي لواشنطن في ديسمبر 2011، والتقائه مع زعماء صهاينة من منظمة الإيباك)، حتى أن النهضة تحولت إلى أداة للأمريكان سواء بإدراك منها أم لا، لهذا الدور الذي تقوم به حتى لو كلفها ذلك تقديم تنازلات تنال من أمن تونس التي يحكمونها. لكن بعد سنة، تنحى العريض لصالح حكومة غير سياسية يقودها وزير الصناعة السابق مهدي جمعة نتيجة لاغتيال النائب في المعارضة محمد براهمي في 25 يوليو2013.وبين يوليو 2013، ويناير 2014، دخلت تونس في أزمة سياسية كبيرة وحادة، شلت الحياة السياسية والدستورية في البلاد جراء اختبار القوة بين النهضة ومعارضيها ما دفع الجهات المانحة الدولية إلى تجميد منح قروض لتونس، وأثار استياء اجتماعيا متناميا في حين تواصلت أعمال الإرهابيين. وكان لصمود المجتمع المدني التونسي المدافع بقوة عن إنجازات الدولة المدنية التي أرساها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، والمقاوم لسياسة الاغتيالات والظلم والجهل والظلام والظلامية، وتوحد أحزاب المعارضة اليسارية والقومية والليبرالية على التصدي لمشروع الهيمنة والاستئثار بالسلطة من جانب الإسلاميين، والضغوطات الأمريكية التي مارستها الإدارة الأمريكية ضد النهضة بسبب الهجوم على سفارتها في تونس، ومقتل السفير الأمريكي في بنغازي، وارتدادات الزلزال المصري على الحدث التونسي، كل هذه العوامل مجتمعة هي التي دفعت حركة النهضة الإسلامية إلى القبول بالتسوية السياسية مع المعارضة، لجهة تشكيل حكومة تكنوقراط غير متحزبة بزعامة السيد مهدي جمعة، وإقرار دستور ديمقراطي توافقي يقر بمدنية الدولة، والمساواة بين المواطنين جميعا، ويكرّس المكاسب الكبيرة التي حققتها المرأة على كلّ صعيد ودورها الطليعي في المجتمع، فاستخلصت النهضة الدروس من هذه الأحداث وتخلت عن ميولها للهيمنة لتنجح في النهاية في الخروج من الأزمة.