13 سبتمبر 2025
تسجيليستدعي حديث البعض عن ثنائية "الدولة" و"النظام"، والادعاء بأنه لا يوجد ما يسمى بالنظام السياسي أصلاً وإنما هناك فقط الدولة، يستدعي مراجعة الفرق النظري بين كلا المفهومين، كما صاغه علماء السياسة المعاصرون، للوقوف على حجم الحقيقة من الزيف في هذا الادعاء.يتفق جل علماء السياسة على أن مفهوم الدولة أوسع من مفهوم النظام السياسي، فالدولة هي ذلك الكيان الذي ينبثق إلى حيز الوجود من اجتماع عناصر الأفراد والإقليم والنظام السياسي. أما الأخير فهو ذلك المكون من مكونات الدولة الذي يعبر عن "السلطة الإلزامية التي تحدد لوائح السلوك الاجتماعي، وتشمل الهيئات المختلفة التي تندمج في كيان واحد للنهوض بأهداف المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، والتي تتمتع في الوقت نفسه بوضع قانوني متميز عن سائر التنظيمات والهيئات الأخرى".صحيح أن البعض يذهب إلى أن التفرقة بين الدولة والنظام السياسي هي تفرقة نظرية وليست عملية، ذلك أن كل عمل يقوم به النظام السياسي ينسب في النهاية للدولة، "فعندما نقول إن الدولة (أ) دخلت في حرب أو وقعت اتفاق سلام مع الدولة (ب)، فإن النظام السياسي الحاكم في الدولة (أ) هو الذي شن هذه الحرب أو أبرم هذا الاتفاق مع النظام السياسي في الدولة (ب)، وعندما نقول إن الدولة (س) قد اعتنقت المذهب الاشتراكي أو الرأسمالي، فإن نظامها السياسي في الواقع هو الذي فعل ذلك لكي يحقق أهدافا معينة، ولم تعتنق الدولة نفسها أي مذهب، فالدولة بذاتها لا تأتي بأي تصرف في الواقع الملموس، وإنما النظام السياسي الممثل لها هو من ينهض بهذه الأفعال".إلا أن هذا الاستخدام المتساهل للمصطلحات لا يبرر اعتبار أن النظام السياسي مرادف للدولة أو اعتبار أنه لا يوجد أصلا ما يسمى بالنظام السياسي. فرغم سطوة النظام السياسي وقدرته على التدخل في حياة المواطنين حتى أدق تفاصيلها فإن هذا لا يكفي لكي يصير هو نفسه "الدولة"، فالنظام السياسي في التحليل الأخير ما هو إلا مجموعة من الأفراد الذين يمارسون السلطة باسم الدولة، ومن ثم فإن مساءلته عن أفعاله تبدو أمرا معقولا ومقبولا، وذلك على العكس من مساءلة الدولة، فالدولة كيان مجرد، أما النظام السياسي فكيان مشخصن، تمكن طاعة أفراده أو عصيانهم، كما يمكن تأييدهم أو معارضتهم، والواقع أن فكرة تمييز النظام السياسي عن الدولة بما يتيحه هذا من محاسبة الأول عن أفعاله هي الفكرة الرئيسية في أي دولة تتمتع بنظام حكم شرعي، وذلك على العكس من أنظمة الحكم الاستبدادية، التي تستهجن فكرة محاسبة الناس لها على أفعالها، وذلك انطلاقا من استشعارها أنها تمثل الدولة وتتطابق معها.بهذا المعنى فإن الغرض من التمييز بين الدولة والنظام السياسي هو تأكيد حدود سلطة الأخير على الأفراد، وتأكيد مراعاته للهدف أو الأهداف التي من أجلها قامت الدولة، "والواقع أن وسائل الحد من سلطة الأنظمة الحاكمة كالدساتير المكتوبة، وقوانين حقوق الأفراد، ومبدأ الفصل بين السلطات، ما هي إلا أساليب أوحت بها الخبرة التاريخية للحيلولة دون النظام وبين إساءة استخدامه لسلطاته، فالأفراد الذي يتكون منهم أي نظام سياسي ليسوا معصومين من الخطأ، إذ قد يتعمدون استغلال سلطتهم في سبيل تحقيق أهدافهم الخاصة، كما أنهم قد يدعون أن المصلحة الخاصة لهيئة أو مؤسسة من مؤسسات الدولة هي في مصلحة المجتمع ككل وهي ليست كذلك".كما أن القيمة الأكبر للتفرقة بين الدولة والنظام هي الإمكانية التي يتيحها هذا التمييز لتغيير النظام عندما لا يستطيع التحمل بالمسؤوليات التي يقتضيها منه كونه وكيلا أو ممثلا للدولة. والأمر المهم هنا أن هذه التفرقة تبين "أن الأفراد حينما يطيعون النظام السياسي، فإنهم لا يفعلون هذا تمجيدا للسلطة لذاتها، وإنما من أجل تحقيق أهداف يعتقدون أنها ستتحقق عندما تؤدي هذه السلطة عملها، فهم يخضعون للأوامر على ضوء الرضا الذي يسعون إلى تحقيقه في هذه الحياة، وعليه يصبح من حقهم أن يرفضوا هذه الأوامر عندما تحرمهم من تحقيق أهدافهم".كما أن ممارسة السلطة مشروطة بالتزامها باللوائح والقوانين، وتحقيق ما يعتبره المواطنون أهدافا أساسية، فالنظام السياسي تتحدد قيمته لدى المواطن عن طريق ما يقوم به من أعمال، ولا يمكن لنظام سياسي فاشل أو عاجز أن يثني الأفراد عن تقييمه أو محاسبته بحجة أنه يمثل الدولة، أو أن يقنع الناس أن مطالبتهم برحيله أو سقوطه تعني أنهم يجترئون على الدولة نفسها ويطالبون بسقوطها. فمبرر السلطة الإلزامية التي يتمتع بها أي نظام سياسي هو سد حاجات الأفراد، ولا معنى لوجود نظام يدعي أنه يحافظ على الدولة فيما هو يهدر حاجات الأفراد أو لا يقيم لها وزنا.ولما كانت الولايات المتحدة هي قبلة الأنظمة السياسية في العصر الحديث، فإن مراجعة إعلان استقلالها تفيد في تبيان هذه الفروق بوضوح، إذ ينص على أن الحكومات لم تنشأ إلا لتحفظ حق الناس في الحياة والحرية والمساواة والسعي لنيل السعادة، وهي قبل ذلك تستمد سلطانها العادل من رضا الشعب المحكوم. فإذا قامت أي حكومة لتقضي على هذه الغايات، أصبح من حق الشعب أن يستبدلها أو يلغيها وأن يقيم مكانها حكومة جديدة تعتمد على أسس من المبادئ والأنظمة التي يراها أجدى وأصلح في صون سلامته وسعادته. ثم يقول الإعلان: "إنه على الرغم من أن الحكمة تقضي ألا يستند الناس على أسباب واهية وعرضية ليغيروا حكومات طال استقرارها، وكذلك أثبتت الخبرة أن بني الإنسان يفضلون أن يتحملوا ما يمكن تحمله من المعاناة، على أن يطيحوا بما تعودوه من النظم، ولكن إذا ما تعدد سوء استعمال السلطة واغتصابها، وتبين أن الغرض الذي ترمي إليه الحكومة من ذلك هو وضع الشعب تحت نير الاستبداد فمن حق الشعب، بل من واجبه، أن يسقط مثل هذه الحكومة وأن يستعيض عنها بطرق جديدة لتأمين مستقبله".يراجع في هذا الصدد: هارولد لاسكي: الدولة نظريا وعملياً، طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012.