17 سبتمبر 2025

تسجيل

"النموذج التركي" و..الأكراد

07 يناير 2012

لن تخرج حكومة حزب العدالة والتنمية بسهولة من تحت أنقاض ورماد المجزرة التي نفّذها سلاح الجو التركي ضد مجموعة من الشبان الأكراد لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاما ومن بينهم صبية أصغر سنّاً. مجزرة "أولوديري" التي ارتكبت عشية بداية العام الجديد أدخلت تركيا بسرعة في "أجندة" مثقلة بالأحداث والتوترات وألقت الضوء، الذي في الأساس لم يخفت يوما، أكثر على واحدة من القضايا التي إذا استمرت في السير على المنوال نفسه فستكون نهايتها حتما على الطريقة العراقية، أي فيدرالية وربما الاستقلال. القضية الكردية في تركيا بعد مجزرة أولوديري ليست كما قبلها. سيقول البعض إن الكثير من الحوادث الكبيرة قد سبقتها على امتداد السنوات الماضية. لكن مع ذلك تميزت حادثة أولوديري بمجموعة من الخصوصيات. أولا أنها ارتكبت رغم التأكد بأن المجموعة الكردية المدنية التي كانت تهرب المازوت والتبغ على ظهر البغال والحمير، من أجل لقمة عيش رخيصة، كانت مدنية بالكامل ويعرفها تماما مخفر الجنود الذي تمر عبره يوميا. ومع ذلك حصل القصف وسقط القتلى الذي فارق بعضهم الحياة من الجروح بسبب عدم وصول أي سيارة إسعاف في الوقت المناسب. وهذا التقصد يرتب مسؤوليات خطيرة على السلطة المسؤولة عن الحادثة. ثانيا وقعت الحادثة في ظل سيطرة السلطة السياسية على السلطة العسكرية وعدم تفرد العسكر بالقرار. أي أن السلطة المسؤولة مباشرة عن الحادثة هي الحكومة التركية برئيسها رجب طيب أردوغان ووزير دفاعها. وللمرة الأولى منذ نهاية أغسطس الماضي بات للعسكر أن يتنصل من مسؤولياته المباشرة ويضعها في ظهر المدنيين. ثالثا وقعت الحادثة في ظل تقديم تركيا نفسها نموذجا للدولة الديمقراطية والداعمة للحريات في الشارع العربي فإذا بها تسقط في "الشارع الكردي" وتقضي على حياة مدنيين في مجزرة علنية وموصوفة لاقت انتقادا عنيفا حتى من أقرب المقربين من الحكومة. ومن يعد إلى الصحافة التركية يدرك حجم "الخطأ" الذي حصل في أولوديري. رابعا وقعت الحادثة في لحظة إقليمية ودولية متوترة جدا تقع تركيا في القلب منها وتزيد من الصعوبات التي تواجهها أنقرة في المرحلة الحالية والمقبلة. لم تكن ردة فعل الحكومة التركية لائقة بحق الأكراد ولا الضحايا الذين سقطوا. ورغم كل المعطيات التي تشير إلى تقصد القصف على المدنيين فلم يصدر أي اعتذار معنوي من الحكومة تجاه الضحايا بل اكتفى بتخصيص تعويضات اعتبرها المسؤولون بأنها بمثابة اعتذار. وبالطبع هذا لا يفي بالغرض. يقول أردوغان إن الدولة لا يمكن أن تتقصد قصف شعبها. ولكن معظم الكتّاب كانوا يشيرون إلى مرحلة جديدة من عدم قدرة القيادة التركية على التعامل بواقعية وحكمة مع ملفات حساسة وفي مقدمها القضية الكردية. وكم كان "علي أكيل" الكاتب الذي ليس بعيدا عن الحكومة وفي صحيفة يني شفق المقربة من الحكومة وهو مراسلها في واشنطن، مصيبا عندما كتب مقالة بعد المجزرة اعتبر فيها أن المشكلة هي في أن "الخطأ" الذي ارتكب في أولوديري، عمره ليس يوما أو يومين بل عمره قرن بكامله. ويختصر بسياسة التذويب والإنكار والإلغاء من قبل "النظام"(السيستام) في تركيا تجاه الأكراد منذ مائة عام. فأُحرقت القرى وهجّر السكان وبل نسي الناس لغتهم الأم من أجل إقامة مجتمعات آحادية على النمط الهتلري والموسوليني والشيوعي. ويعكس نمط التعامل من قبل "السيستام" التركي تجاه الأقليات في تركيا نهجا بنيويا يمكن تعميمه على كل "الدول-الأمة" التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى والتي لم تستطع مغادرة "الأنا" القومية التي تلامس حدّ العنصرية في مقاربته لمشكلة الأقليات بمختلف مكوّناتها. ورغم أن تركيا تحقق تقدما في التنمية الاقتصادية وفي إخضاع العسكر للسلطة السياسية فإنها تبقى قاصرة ومقصرة في طريقة مقاربتها لجميع المشكلات الأخرى التي تتطلب شجاعة وإعادة تكوين ذهنية وفكرية لا يبدو أن "السيستام" في تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية، مستعد ليكون مختلفا عن السيستام الذي كان سائدا منذ جمعية الاتحاد والترقي إلى أتاتورك إلى حكومات الوصاية العسكرية والمتشددين من القوميين والعلمانيين. وما لم تتغير هذه الذهنية، عبثا تبحث تركيا في ظل سيستامها الحالي، عن نموذج ناجح ومستقر.