18 سبتمبر 2025
تسجيلالعولمة شرٌّ لابد منه، يراد لها أن تكون شاملة لكافة مناحي الحياة؛ الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، ويستخدم في سبيل ذلك سياسة العصا والجزرة.. والعولمة أو الثقافة العالمية ليست شيئا سوى الثقافة الغربية، أو هكذا يراد لها أن تكون ثقافة تُعمّم، وذوقاً واحداً يفرض على جميع البشر، تُلغى بموجب ذلك الاختلافات والتمايزات الحضارية.. فهذه القوى الغربية العُظمى تستهدف ترويض الهمم وإفقاد المجتمعات المستهدفة الثقة في كل شيء لتصبح على استعداد لقبول أي شيء ثم إعادة تشكيل أفكارها وأحلامها بوسائل عديدة تبدأ بالكلمة والصورة وقد تنتهي بالمدفع والدبابة والقذيفة. إعلام الآخر كان على الدوام ناقلا رئيسا للعولمة بيد أنه من واجب إعلام ينتمي إلى حضارة أصيلة ضاربة الجذور، كالحضارة العربية الإسلامية، أن يُكافح أية تشوهات تتربص بحضارته، بل أن يسعى إلى إحداث تغيير إيجابي في الرأي العام سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، إضافة إلى إيضاح الحقائق وإقامة جسور التفاهم من خلال استخدام شتى الفنون الاتصالية.. السياسات الإعلامية للدول الاستعمارية منذ الحرب العالمية الأولى ثم الثانية سبق لها أن سعت إلى استخدام وسائل الاتصال سياسياً بهدف الوصول إلى نتائج محددة تهدف إلى التأثير على الرأي العام العالمي. الإعلام خاصة الفضائي يُنظر له باعتباره من أهم أدوات الصراعات الدولية الحالية، يحدثنا التاريخ القريب جدا نقلا عن وكالة أورينت برس في تقرير لها قبل نحو تسعة أعوام أنه "بعد الخطاب الذي أدلى به وزير الخارجية الفرنسية الأسبق دومينيك دوفيلبان في فبراير 2003م معارضاً فيه خطة أمريكا لغزو العراق، والذي قامت شبكات الإرسال الأمريكية باقتطاع أجزاء من بعض فقراته والتي تضمنت تصفيق المستمعين المدوّي له، قرر الوزير الفرنسي (المجروح) دعم مشروع إعلامي جديد لتأسيس شبكة إعلامية عالمية باللغة الفرنسية. وهكذا بدأ التأسيس لمرحلة جديدة من الحرب بين الأمم، سلاحها محطات فضائية إخبارية عالمية، وذلك بعد سيطرة قناتي الـBBC والـ CNN على السوق الإعلامية العالمية على مدى عصر كامل". في أعقاب سقوط الإمبراطورية العُثمانية غدا التغريب أشدّ خطورة لا على الأمن الثقافي فحسب، وإنما على الأمن القومي العربي برمته. فالتنافس المحموم بين الإرساليات الكاثوليكية والإنجيلية أدى إلى قيام منظومتين ثقافيتين عالميتين، هما الفرانكوفونية والأنجلوساكسونية. وهما إلى اليوم تخوضان "حرباً" ثقافية باردة بمعنى أن الصراع الدائر بينهما لم يعد يقتصر، كما كان بالأمس على التبشير؛ وإنما تخطاه إلى كل ما يمت بصلة إلى الشؤون الثقافية والفكرية والإعلامية والفنية والأدبية والعلمية والتكنولوجية واللغوية وغيرها. وما يستدعي الانتباه أن العالم العربي لا يزال محور هذا التنافس وموضع تجاذب كبير من جانب المنظومتين، بحيث لم يخل أي قُطر من أقطاره من ظل وتأثير كل منهما فيه. والعولمة في رأي كثير من الباحثين ليست مفهوماً جديداً؛ فهي باعتبارها فكرة عمرها أكثر من خمسة قرون ظهرت مع الكشوف الجغرافية، غير أن ثورة الاتصالات والمعلومات أشاعتها، لكن ضمن النمط الغربي للحياة، في مقابل محو الهويات الأخرى، صاحبة الميراث والتاريخ. ولذا فإن العولمة بواقعها الحالي أكثر من أنها انتقال من المستوى الوطني والقومي إلى المستوى العالمي أو الكوني لتندمج النظم وتتكامل، وتعتبر العولمة الثقافية واحدة من أهم ركائز ظاهرة العولمة وأكثرها مثاراً للجدل الخلاف بين بني الإنسان؛ ولاسيَّما أن الكثيرين يعتبرون أنها تعني سيادة ثقافة واحدة بلغتها وفكرها وأنماط حياتها وسلوكها وتدمير الخصوصيات الثقافية الأخرى. ونظراً لأن الإعلام أصبح من الظواهر الأساسية في المجتمعات الحديثة زاد نفوذ مؤسسات الاتصال في المجتمعات الغربية بحيث أصبحت تشكّل تهديداً للاستقلال الثقافي والفكري في الدول النامية.. وفي عصر العولمة، يصبح للخطاب الإعلامي دورٌ أكبر وأهم، حيث تواجه الأمة الإسلامية حرباً حضارية شرسة وفتناً دينية وعرقية وتحديات كبيرة تحتاج لخطاب في مستوى التحديات. ويدور الحوار اليوم والنقاش بل السّجال، حول فكرة الاندماج التي تطرحها نظرية العولمة في عصرنا الحديث، ويؤكد محور المناقشات على وجود تحديات من شأنها القضاء على فكرة التنمية والخصوصية. لقد طُرح على المنطقة العربية العديد من المشروعات في الآونة الأخيرة منذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في بداية تسعينيات القرن المنصرم، ولا تنتهي عند "الشرق أوسطية" التي طرحها في السابق الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بعد اتفاقيات أوسلو، ثم "السوق الشرق أوسطية".. وفيما بعد أضحى هذا المشروع مشروعاً قديماً جديداً، يُطرح في كل مرةٍ تحت مُسميات تختلف قليلاً عن بعضها البعض، فعندما تتحدث الإدارة الأمريكية عن "شرق أوسط جديد"، يبقى جوهر الفكرة كما هو من دون أي تغيير بيد أن وسائل وأساليب تحقيقها كانت ولا تزال قابلة للتعديل والتغيير وفق تطور وملابسات الظروف المتجددة. وفي إطار هذا المشروع، تعود السيطرة الاستعمارية شبه المباشرة، وتعود معها علاقات الامتيازات التي حكمت الثروة النفطية لحوالي نصف قرن قبل حملة التأميم في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.