16 سبتمبر 2025
تسجيلهل يُعقدُ مؤتمر المعارضة السورية في الرياض على سبيل المصادفة العابرة، المتعلقة ببعض الحسابات السياسية التكتيكية؟ على العكس من ذلك تماماً، كما نتوقع أن يُثبت التاريخ في يومٍ قريب. ثمة قراءةٌ، يَظهرُ منها ارتباط البلدين، يتداخلُ فيها التاريخ نفسه بالجغرافيا، ويُلمحُ فيها بوضوح دور الثقافة والدين والاقتصاد والاجتماع البشري، لتأكيد ذلك الارتباط.والحاجة ملحةٌ، وسط الظرف الراهن وإكراهاته اليومية السياسية والأمنية و.. العاجلة، إلى استحضار تلك القراءة بشكلٍ استراتيجي، وبحسٍ حضاريٍ شامل الأبعاد، بما يساعد على أن توضع كل التفاصيل في إطارها الصحيح. ففي معزلٍ عن هذه المنهجية، يمكن بسهولةٍ للقرارات والممارسات أن تحصل خارج سياقها الحضاري المُفترض. وهو سياقٌ لا تقتصر ضرورة استيعابه وأخذه بعين الاعتبار على السعوديين والسوريين فقط، بل على العرب بأسرهم، بحكم التأثير الواضح لكل ما يجري في البلدين على مصير المنطقة، حاضراً ومستقبلاً. يمكن أن نتحدث عن البلدين بشكلٍ منفصل، ثم نقرأ ما يقوله التاريخ عن العلاقة بينهما لنرى صدقية الرؤية الواردة أعلاه. نبدأ بالسعودية لنرى، بالقراءة التاريخية، كيف يظلُّ ثابتاً أن هذا البلد هو منبت (العروبة) ومهد (الإسلام)، كلمتان أصبحتا في بؤرة التاريخ المعاصر، وفي قلب صناعة الحدث العالمي الراهن.وبالقراءة الاقتصادية، يظل ثابتاً أن أرض هذا البلد تحوي الخزين الأكبر من وقود الاقتصاد العالمي المعاصر: (البترول). أما بالقراءة الدينية، فيظل ثابتاً أن في هذا البلد الحرمين الشريفين، وأنهما سيبقيان مهوى أفئدة مئات الملايين من بني البشر، بكل ما يحمله ذلك من مهماتٍ ومسؤولياتٍ وتشريف.وأخيراً، بحسابات الجغرافيا / السياسية، يظل الموقعُ الاستراتيجي للسعودية ثابتاً لا يمكن زحزحته. في قلب الشرق الأوسط. من حولها دول الخليج والعراق و(إسرائيل). على مرمى حجر من (إيران) وقناة السويس ومضيق باب المندب. تفصلها بعض الأمواج عن دول حوض وادي النيل، وهي كلها دولٌ ومناطقُ باتت معروفةً حساسيتها في السياسات الدولية، حتى بكل متغيراتها الراهنة.أما سوريا، فيبدو من الـ(الجيوبولتيكس) أو الجغرافيا السياسية المتعلقة بها، أنه بغضّ النظر عن النظام السياسي الذي يحكم هذا البلد العربي الحساس، فإن هذا النظام سيملك في يده على الدوام مجموعة أوراق تنبع، بشكلٍ بحت، من مجرد وجود البلد في موقعه على الخارطة. فسوريا تحتل مكان القلب من بقعة جغرافيةٍ حساسة تضم تركيا والعراق وإيران والخليج العربي والسعودية ولبنان والأردن وفلسطين و(إسرائيل). والذي يعرف تاريخ العلاقات بين الدول المذكورة ويعرف طبيعة التداخل و/ أو التنافر الهيكلي الموجود بين حكوماتها من جهة، وبين مكونات الموزاييك الفسيفسائي الذي تتكون منه مجتمعاتها من جهة أخرى، على مدى القرن المنصرم على الأقل، يستطيع أن يدرك استحالة تحييد دور سوريا في صناعة حاضر المنطقة ومستقبلها.وإذا أخذنا بعين الاعتبار الحدود المشتركة لسوريا مع الغالبية العظمى من تلك الدول، وإذا وضعنا في الحساب حقيقة التداخل السكاني والعشائري المعقّد لشعب سوريا مع كل مجتمعٍ من تلك المجتمعات. فإن هذين الأمرين يوفران باستمرار لمن يحكم الشام أدوات هامة للتدخل في كل شأن إقليمي. لا يعني هذا التحليل أن سوريا هي الأقدر على قيادة الاستقرار في المنطقة، لكنها على وجه التأكيد الأقدر على زعزعته، بإرادتها، أو بأي فوضى تحكمُها. وربما يكون بديهياً الآن تعميمُ مقولةٍ قديمة وُصف بها البلد حين قيل في معرض الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي: "لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا"، بحيث يمكن القول إنه لا استقرار في المنطقة من دون استقرار سوريا. والظاهر من تطورات الأحداث في السنوات القليلة الماضية أن اللاعبين الإقليمين والعالميين لم يكونوا في وارد استصحاب الحقيقة المذكورة عندما تم اتخاذ معظم القرارات السياسية التي كان يُراد لها أن ترسم الصورة الجديدة للمنطقة، وتُحدّد مجالات الحركة فيها، وتُعيد تشكيل خرائطها السياسية والجغرافية والإثنية.. لكن تطور الأوضاع في المنطقة، بأشكاله المعروفة، أثبت أن تجاهلَ تلك الحقيقة وصلَ بها في نهاية الأمر إلى حالٍ باتت تُهدد استقرار وأمنَ العالم بأسره.إلى هذا، يُبين لنا التاريخ، مرةً تلو أخرى، كيف كان إحساس إنسان الجزيرة العربية أن الشام هي بوابتهُ إلى العالم، بمعناه الجغرافي، وبمعناه الحضاري المتضمن ثقافةً واقتصاداً واجتماعاً بشرياً. حصلَ هذا قبل الإسلام، من خلال رحلة الصيف التي وثقها القرآن نفسه، وأعطاها أبعادها الحساسة في معرض الإشارة إلى "إيلاف قريش"، وإلى كونها وسيلةً إلى "الإطعام من جوعٍ والأمن من خوف".ثم إن فضاء الشام كان أول ما ارتاده إنسان الجزيرة بعد الإسلام، مَدخلاً إلى العالَم والعالَمية، واستمر الأمر بشكلٍ أو آخر، يعرفه المؤرخون إلى الماضي القريب. ورغم تقلب العهود والأنظمة والحكام في سوريا خلال قرنٍ مضى من الزمان، كانت الدولة السعودية تحاول دائماً أن تستوعب هذا الواقع وتتعامل معه، إدراكاً منها للسياق الاستراتيجي المذكور.هذه، بما يسمح به المقام، ملامح مواعيد التاريخ والجغرافيا بين البلدين. وإذ نرى المنطقة مقبلةً على مستقبلٍ سيحصل فيه الحديث عما "قبل مؤتمر الرياض وما بعدها"، فإن هذا يُظهر الضرورة الاستثنائية لوضع كل ما يتعلق بهذا الحدث في سياق مقتضيات تلك المواعيد.