03 نوفمبر 2025
تسجيلمنذ أن ولج الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي السوداني، معترك السياسة قبل ما يقرب من نصف قرن من الزمان، ظل معارضا ولم يحكم إلا بضع سنوات ما قبل حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، ثم ما قبل حكم الرئيس الحالي عمر البشير.. وظل الرجل رقما صعبا ومصدر قلق للأنظمة التي يعارضها؛ أولا لكونه سياسيا مخضرماً، وثانيا لأنه بقي مؤمنا بالمدافعة السياسية إلا فترات قليلة اعتمد فيها المدافعة بقوة السلاح، ومن مصادر قوة الرجل أنه يحظى باحترام دولي بسبب مناصرته للقيم الديمقراطية، لكن يؤخذ عليه تردده وميله للمواقف الرمادية ومن هنا كان له خلاف كبير مع تحالف قوى المعارضة في الداخل. الأسبوع الماضي وجه إليه الرئيس البشير مدفعية ثقيلة وهو يتحدث في مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة الخرطوم، ولم يأت هجوم البشير إلا بعد أن مارس المهدي ممانعة ظاهرة للغزل الذي مارسه الحزب الحاكم؛ فالمهدي خرج قبل عدة أشهر مغاضباً حين بلغ خلافه مع النظام أن اتهم بالخيانة الوطنية ومن ثمّ أودع السجن وأطلق سراحه بوساطة وتسوية سياسية وبعدها غادر البلاد، وفي باريس وقع المهدي اتفاقا مع الجبهة الثورية التي ترفع السلاح في وجه الحكومة، الأمر الذي آثار غضب الحكومة، بيد أن تلك الخطوة التي جاءت مغايرة لما اعتمده المهدي في الفترة السابقة من نهج سلمي في معارضة الحكومة، تفسر مدى اليأس الذي انتاب الرجل من الوصول إلى أرضية مشتركة مع حكومة البشير.قبل هجوم البشير الأخير على المهدي، دعت الحكومة المهدي للعودة إلى البلاد، والمشاركة في طاولة حوار للمصالحة الوطنية، وقال وزير الاستثمار والمسؤول السياسي في الحزب الحاكم "إن مكان الصادق المهدي في لجنة الحوار لا يزال شاغراً، ومكانه الطبيعي أن يكون في داخل البلاد".. وذكر قياديون في حزب الأمة بأن المهدي لا يحتاج لدعوة للعودة إلى وطنه، ومصلحة الوطن تتطلبت وجوده في الخارج، وهذا ما كان يدور فوق السطح؛ إلا أن المهدي حاول استغلال حاجة النظام الملحة لوجوده بالداخل وعرض خلف الكواليس شروطا لم تعجب حكومة البشير، مما حدا بالبشير أن يهدد في ذلك المؤتمر الصحفي، بتقديم الصادق المهدي إلى المحاكمة حال عودته للبلاد وقال لن نسمح لأي مواطنٍ بالوقوف إلى جانب التمرد في إشارة لاتفاقه مع الجبهة الثورية، واتهمه بالتعامل مع المتمردين ضد القوات المسلحة التي وصفها بالخط الأحمر.. ورد المهدي من جانبه بعنف على البشير مؤكداً أن ترشح البشير لدورة رئاسية جديدة يستنسخ الأزمة السودانية، فضلاً عن انتهاكه للدستور والقانون. وقال إن الدستور السوداني يمنع الترشح لفترة رئاسة ثالثة، وأن البشير استمر في حكم السودان لمدة ربع قرن، واجهت فيها البلاد "انتكاسات كبيرة"، من انفصال الجنوب واشتعال الحرب في دارفور.رسائل كثيرة بعث بها المهدي خلال السنوات الماضية دون أن يتلقفها النظام حتى انسكب اللبن وعلت أصوات الباكين عليه؛ ففي يونيو من العام الماضي بعث المهدي برسالة ذات دلالات عميقة تقول إن حزب المهدي يريد أن يشارك وبقوة مع الحكومة ولكن بالقدر الذي يرى أنه مناسب مع ثقله السياسي.. لقد تعمد المهدي في لقاء مع أنصاره قصد أن يحشد له أكبر عدد ليقول إن حزبه من فئة الصندل وليس من فئة (الطرور) وهو نوع من النبات خفيف الوزن عديم الفائدة..وفي ذات اللقاء، وعندما هاجت الحشود معترضة على مهادنته للحكومة حسمهم مؤكداً: أن الذي لا يعجبه هذا النهج فإن "الباب يفوّت جمل".. وتلك كانت جزئية مهمة جدا من الرسالة المصوبة تجاه الحكومة، وهي أنه: رجل عقلاني ولا يميل لاستخدام قوته في مواجهة خصمه رغم قدرته على ذلك، وبالتالي فإنه جدير بشراكة حقيقية وقوية.. في ذات الأيام التي كان المهدي يدين فيها إسقاط النظام بالقوة ويحذر من عبث الجبهة الثورية؛ كان يريد أن يؤكد أنه لا يقبل في حالة أي صفقة مع النظام بوزارات هامشية وبالتالي لا يقبل أن يكون من أحزاب الزينة كما سمّاها ويقصد الأحزاب التي قبلت المشاركة بوزارات هامشية.. حينها لم تقبل الحكومة مطالب المهدي ولم تستوعب رسالته. من المؤكد أن المهدي ليس استثناءً من سياسيي السودان الذين شاخوا وفقدوا صلاحية العمل السياسي دون أن يقدموا شيئا للوطن سوى الفشل السياسي المستوطن.. في ديسمبر (2012) أعلن المهدي التنحي أو (الاتجاه) للتنحي عن العمل السياسي لكن الرجل مازال على رئاسة حزبه التي امتدت لأكثر من أربعين عاما وكذا الحال بالنسبة لزعيم الحزب الاتحادي محمد عثمان الميرغني وحسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي وها هو البشير بترشحه الأخير يريد أن يحكم البلاد المأزومة لمدة ثلاثين عاما.