15 سبتمبر 2025

تسجيل

"وطني الحبيب".. عنوان الإعلام الهادف

06 سبتمبر 2014

في مساق "وسائل الإعلام والمجتمع" في قسم الإعلام بجامعة قطر، كنت دائما أطرح السؤال التالي: ما هو البرنامج الإذاعي أو التلفزيوني القطري المفضل لديكم؟ ولماذا؟ فكان الاختيار الأول للطلبة برنامج "وطني الحبيب" "لأنه برنامج الشعب، برنامج الجماهير، برنامج الصراحة والشفافية، برنامج طرح المشاكل والقضايا والبحث عن حلول لها.برنامج يجد الجمهور نفسه فيه لأنه يخاطبه ويعطيه فرصة للكلام والتعبير عن رأيه بكل حرية وديمقراطية وبدون رقيب"، هذا كلام الطلبة.. البرنامج الإذاعي الشهير والمتميز "وطني الحبيب صباح الخير" هو مثال وقدوة للإعلام المسؤول والفاعل والمؤثر والمتفاعل مع المجتمع. هذا البرنامج في إذاعة قطر هو الإعلام الحقيقي الذي يطرح قضايا وهموم وانشغالات ومشاكل واستفسارات المواطن والوافد على حد سواء. برنامج يجمع المسؤول والشعب عبر الأثير للرد على الاستفسارات والأسئلة وانشغالات واهتمامات الجمهور. برنامج إذاعي متميز هدفه هو طرح القضايا المجتمعية الهامة كالازدحام المروري، ارتفاع الأسعار، مشاكل الخدم، التركيبة السكانية، الرسوم الدراسية وغيرها كثير من القضايا والمشاكل اليومية التي يعاني منها المجتمع. مثل هذه البرامج ترفع مستوى الوعي والمسؤولية في المجتمع، وتنمي الحس الوطني عند الفرد في المجتمع. فهي منبر للحوار والنقاش والرأي والرأي الآخر، وهي كذلك برامج تقوي وتغذي المجتمع المدني بوسيلة وقناة تجمع المواطن بالمسؤول لتنمية روح المسئولية والمواطنة والولاء والدفاع عن الحق والصالح العام. مثل هذه البرامج تساعد صاحب القرار على التعرف على نبض الشارع وعلى حقيقة الواقع بدون تضليل ولا تزييف.فالإعلام في أي مجتمع هو مفتاح الديمقراطية والحكم الراشد فهو أساس الرقابة الذاتية والنقد الذاتي والصراحة والشفافية. فالإعلام الهادف والمسؤول والفاعل في المجتمع هو الإعلام الملتزم الذي يساير التغيرات والتطورات التي يشهدها المجتمع في مختلف المجالات وعلى كافة الأصعدة. تثار في الأوساط العلمية والأكاديمية من حين لآخر حوارات ساخنة حول المنظومة الإعلامية ودورها في المجتمع وما تستطيع أن تفعله من بناء وتوعية ومساهمة في التغيير والتشييد والتنمية الشاملة وكشف الحقائق والتجاوزات والأمراض الاجتماعية والأخطاء المختلفة التي تشل العمل الهادف والناجح. فالإعلام سلاح ذو حدين؛ فقد تكون المنظومة الإعلامية عالة على المجتمع وهذا من خلال نشر ثقافة التلميع والتبسيط والتهميش والتركيز على القشور وإهمال الجوهر. هذا النوع من الصحافة هو النوع السلبي الذي لا يغيّر الأمور ولا يساهم في صناعة الأحداث وعادة ما تنكشف أموره عندما تتأزم الأوضاع وتسوء الأحوال.إعلام التلميع والتملق يكون همه الوحيد هو إرضاء المسؤول بكل الطرق والوسائل، همه الوحيد هو تكريس النظام والمحافظة على الوضع الراهن. فهمه الوحيد هو التبجيل والمدح والتسبيح. فالرسالة والأجندة في هذه الحالة تكون شيء والواقع شيء أخر. وبدلا من أن تكون المنظومة الإعلامية سلطة رابعة تراقب السلطات الأخرى وتكشف عن هموم ومشاكل الشارع وتطرح القضايا المصيرية للأمة للنقاش والحوار نجدها تعمل على تلميع السلطة. الضمير هنا غائب تماما حيث يقوم الصحافي بعملية تزييف وتضليل وتشويه منتظمة، مستمرة وبطريقة عفوية وتنحصر المهمة والرسالة في هذه الحالة في التبجيل والتسبيح الأمر الذي لا يضيف شيئا للمجتمع بل يسهم في نشر ثقافة التزييف والتضليل والنفاق الاجتماعي. وهكذا يصبح الصحافي ومؤسسته الإعلامية بعيدين كل البعد عن خدمة المجتمع وكشف الحقيقة والمشاركة في صناعة القرار والأحداث وتغيير الواقع.. صحافة التلميع تفرز رأيا عاما مزيفا مضللا. وقد يفاجئ هذا الرأي العام نفسه في ظل هذه الصحافة من حين لأخر بالأزمات وبالواقع المرير الذي يعيشه حيث التباين الكبير بين ما يُنشر في الصحف وما تبثه وسائل الإعلام والواقع. وهنا يبدأ التفكك وانهيار المصداقية بين الرأي العام والوسيلة الإعلامية حيث إنه آجلا أم عاجلا يكتشف الرأي العام أن ما يصله من رسائل إعلامية بعيد كل البعد عن الواقع. هل من رسالة يؤديها الصحافي في المجتمع؟ هل من مبادئ يؤمن بها ويعمل جاهدا على تطبيقها؟ هل من حقيقة يبحث عنها ويتعب من أجلها ويخاطر ليلا نهارا لإيصالها للقارئ الذي يعتبر رأس ماله؟ هل الهدف هو كشف أمراض المجتمع وتناقضاته وتجاوزاته؟ أم الهدف هو التملق والتلميع والتقارير المزخرفة والملونة والتي تهدف إلى إرضاء المسؤول باستعمال كل الطرق وكل الوسائل؟ هذه التساؤلات تظهر تافهة لا محل لها من الإعراب في قاموس الصحافة المسؤولة والفاعلة وقاموس السلطة الرابعة، لكن في مجتمعاتنا العربية ما زالت تُطرح ويجب علينا أن نطرحها باستمرار وبجدية ولأكثر من سبب. أولهما أن معظم المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي ما زالت لم ترق إلى مستوى المؤسسة الإعلامية الاجتماعية المسؤولة والمدركة للدور التي يجب أن تلعبه في المجتمع والدليل على ذلك مئات الفضائيات العربية التي تعتبر دكاكين لبيع الإعلانات والرسائل القصيرة وتحقيق الأرباح بأي وسيلة وطريقة. أما السبب الثاني فيتمثل في الموضة الجديدة التي ظهرت في بعض الفضائيات العربية والتي ابتكرت نوعا جديدا من الإعلام وهو إعلام "التمظهر" و"الشوبيز" والبحث عن الجمهور بكل الطرق والوسائل.إعلام التملق والتلميع والتسبيح يعمل على تسطيح التفكير والنظر إلى القضايا الجوهرية في المجتمع. يهدف إلى تغليط الرأي العام والتضليل وكل ما يتناقض مع أخلاقيات المهنة الشريفة والعمل النزيه، المهم هنا هو الحماس والتعبئة والتجنيد وليس التحليل واستقصاء الواقع والبحث عن الحقيقة واحترام الرأي الآخر والنقاش السليم والبناء. الهدف هنا هو ليس إرضاء الحاكم أو صاحب السلطة السياسية أو المالية وإنما البحث عن الحقيقة واستقصاء الواقع من أجل الصالح العام.الإعلام الذي يحتاجه المجتمع هو الإعلام الفعال الذي يخاطر ويغامر ويجازف من أجل إنصاف المسكين المهمش الضعيف المهضومة حقوقه، الإعلام الذي يقف أمام سلطة المال والسياسة، التي تستعمل كل السبل والوسائل والطرق التي تخرج عن الأعراف والقوانين والأخلاق لتحقيق أهدافها وأطماعها ومصالحها على حساب الفئات العريضة من المجتمع. الإعلام العربي اليوم بحاجة إلى صحافة فاعلة، صحافة تقف إلى جانب الضعيف تنصفه وتحميه من جبروت النفوذ المالي والسياسي. مع الأسف الشديد ورغم مرور عقود من الزمن من استقلال الدول العربية ومن الممارسة الإعلامية فيها ما زلنا في عهد صحافة التلميع وإذا خرجنا عنها من حين لأخر فنجد أنفسنا أمام صحافة " التمظهر" والفلكلور و"الشوبيز" وصحافة التسطيح والتهميش والتبسيط، صحافة تخلق ذوقا هابطا لا يفيد في شيء بل يساهم في ذوبان شبابنا في الآخر.أصبحت الصحافة القوية الفاعلة في عصرنا الراهن هي بارومتر الديمقراطية والتقدم والازدهار وهي صانعة الرأي العام القوي والفعال الذي يطيح بالمسؤولين والحكومات وقادة الأحزاب الفاسدة. فالمواطن العربي اليوم لا يتقبل احتكار المعلومة ولا التضليل والتزييف ولا فبركة الواقع. كما أنه لا يقبل بالرقابة والحذف والإعلام العمودي، التحديات كبيرة وضخمة والتغير في الميدان لا يكتب له النجاح إذا لم تتغير العقول وطريقة التفكير والتعامل مع الآخر. والمؤسسة المرشحة بامتياز للقيام بعملية التغيير الفكري والذهني وتغيير السلوكيات والعادات السيئة والخاطئة قبل التغيير المادي، هي المؤسسة الإعلامية إذا تحلت بالمسؤولية والالتزام والمهنية وإذا تبنت منطق الحوار والنقاش من أجل خلق سوق حرة للأفكار وإفراز مجتمع مدني قوي وفاعل، فمزيد من التألق والنجاح لبرنامج "وطني الحبيب" الذي نأمل أن نرى مثله الكثير في أرجاء الوطن العربي.