20 سبتمبر 2025
تسجيلخطت تركيا خطوة كبيرة وشبه نهائية نحو مَدْينة الحياة السياسية في البلاد وهي التي لم تغادر نظام الوصاية العسكرية منذ نيل الاستقلال وإعلان الجمهورية في العام 1923. ففي الأسبوع الماضي كان تقديم رئيس الأركان وقادة القوات المسلحة البرية والجوية والبحرية استقالات جماعية من مواقعهم الأرفع والمهمة جدا مؤشرا على طي مرحلة وبدء مرحلة جديدة من تاريخ تركيا الحديثة. ومع أن أول انقلاب عسكري في تركيا حصل في العام 1960 وتلاه أكثر من انقلاب مباشر أو غير مباشر فإن الفترة التي سبقت ذلك كانت عمليا فترة حكم حزب الواحد وبعصب المؤسسة العسكرية ولا سيما بين عامي 1923 و1950 عندما نجح الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس في إلحاق الهزيمة بحزب اتاتورك،حزب الشعب الجمهوري. لكن فترة العشر سنوات لم تكن كافية لترسيخ أية ديمقراطية حقيقة خارج النفوذ العسكري خصوصا أن مندريس كان حليفا وثيقا للولايات المتحدة وفي عهده خاضت تركيا غمار مغامرات عسكرية في كوريا كما كانت جزءا من الأحلاف العسكرية في الشرق الأوسط فضلا عن أنها في عهد مندريس انضمت إلى حلف شمال الأطلسي.اي أن الطابع العسكري للسياسة الخارجية التركية كان غالبا بحيث لا يمكن القول أن عقد الخمسينيات كانت استثناء عن عقود الوصاية العسكرية. مع حزب العدالة والتنمية كانت تركيا تتقدم لتقليم أظافر المؤسسة العسكرية .وقد استغرق الأمر تسع سنوات وهو لم ينته بعد بالكامل. وفي الواقع أن نجاح السلطة السياسية لحزب العدالة والتنمية في استئصال نفوذ المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية يعود لبضعة عوامل من المفيد تلخيصها بالتالي: 1- أن جزءا من النفوذ السياسي للجيش كان من جراء تخاذل وتهاون الطبقة السياسية نفسها بأحزابها اليسارية واليمينية وأيضا الإسلامية. ولم تكن هذه الطبقة لترفع رأسها اعتراضا على ممارسات بل تجاوزات الجيش لأن مصير الحظر والتصفية الدستورية عبر المحكمة الدستورية والقضاء ينتظر المعترضين لذا كانت غالبية هذه الطبقة تفضل البقاء في السلطة على أن تكون خارجها. في حين أن حزب العدالة والتنمية كان مصمما وبالتدريج على الوقوف بوجه المؤسسة العسكرية متبعا تكتيك التدرج والتشهير عبر الإمساك بملفات قضائية تسيء إلى سمعة المؤسسة العسكرية. 2- غير أن إرادة المواجهة ليست كافية من دون ادوات كان في مقدمها الاعتماد على القاعدة الشعبية بحيث كانت الإرادة الشعبية هي الأداة الأقوى لحزب العدالة والتنمية في مواجهة ليس فقط المؤسسة العسكرية بل كل خصومه.وقد نجح في ذلك على أساس أن من كانت دعامته الشعب لن يخسر ولو تعرض إلى نكسات أحيانا. 3- وكان الجيش غالبا ما يلجأ إلى مؤسسات موازية قضائية تقوم بدور "البلدوزر" المستأصل لخصومه السياسيين.ومثّل القضاء والمحكمة الدستورية أحد أهم أدوات المؤسسة العسكرية لتصفية خصومه.لذا كان الدخول في عملية إصلاح القضاء في استفتاء 12 أيلول - سبتمبر الماضي خطوة حاسمة لسحب ورقة القضاء من يد المؤسسة العسكرية.بحيث أن حزب العدالة والتنمية كان يجرّد الجنرالات من أوراق القوة التي كانوا يملكونها ورقة تلو أخرى. 4- وكان استفتاء 12 أيلول - سبتمبر 2010 المسمار الأخير في نعش "استقلال" المؤسسة العسكرية عندما فرض تعديلا دستوريا يسمح بمحاكمة العسكريين مهما علت رتبهم أمام محاكم مدنية وهو ما أتاح اعتقال العشرات من ضباط الجيش المتهمين بالإعداد لانقلابات عسكرية تم الكشف عنها في السنوات الأخيرة. 5- لكن أيضا يجب عدم إهمال عنصر مهم في اضعاف العسكر والظروف والتحولات الدولية ومن أهمها نزع التغطية الأميركية عنه بعد اتهام واشنطن له في مطلع العام 2003 بأنه كان وراء عدم مشاركة تركيا بغزو العراق وبالتالي إرباك الخطط الأميركية للغزو ومضاعفة الخسائر الأمريكية البشرية هناك. إن رفع الغطاء الأمريكي عن أي انقلابات عسكرية للجيش التركي قيّد حركة الجيش في وقت كانت إدارة جورج دبليو بوش تحتضن ما يسمى بالإسلام المعتدل الذي يمثله حزب العدالة والتنمية والذي واصل باراك أوباما ولا يزال احتضانه حتى الآن.وهو ما وفّر لحزب العدالة والتنمية الفرصة لإصلاحات تعزل الجيش عن المشاركة في الحياة السياسية. 6- أن عدم مشاركة تركيا في الغزو الأمريكي للعراق شجع الاتحاد الأوروبي على بدء مفاوضات العضوية مع تركيا على أساس أنها لم تظهر ككوكب يدور في الفلك الأمريكي.الإصلاحات التركية عامي 2003 و2004 كانت مهمة لتكون أكثر أوروبية ومدنية ولاحتضان الأوروبيين للإصلاحات ولأي إصلاح يقلل من نفوذ العسكر.لذا كان الترحيب الأكبر لاستقالة قيادة الجيش التركي الأسبوع الماضي من جانب الاتحاد الأوروبي. اليوم تركيا أكثر مدنية من دون أدنى شك.لكنها تحتاج إلى الكثير لتكتمل المسيرة الديمقراطية سواء بالنسبة لمواد يجب ازالتها من القوانين حول دور الجيش أو على صعيد الاعتراف بالهويات الإتنية ولا سيما الأكراد وهي معضلة صعبة جدا، أو الهويات الخاصة بالأقليات الأخرى وهي أيضاً معضلات صعبة. في جميع الأحوال، تركيا أكثر مدنية لكنها تحتاج إلى الكثير لتكون أكثر ديمقراطية.