11 سبتمبر 2025
تسجيلالقاضي رجل حصيف يتصف بالذكاء، يعدل بين المتخاصمين، ودوره الأكبر أن يصلح بينهما، ينزع سخيمة نفوسهما، يجسر هوة الشقاق وينتقل بهم إلى الوفاق، وله في ذلك أن يستخدم الحيلة، وأن يسلك إلى هذه الغاية كل وسيلة، بشرط ألا يجور على الضعيف ولا يضيع الحقوق ولا يهدر الدماء.وما زلنا في العصر الجاهلي نستذكر مجالس الصلح والقضاء هناك، حيث نرى العجب الذي سطرته كتب الأدب، ونرى العقل والحصافة التي لم يخل أي عصر منها، فقد أورد صاحب الأغاني عن قصة الصلح بين الأوس والخزرج في حرب استمرت بينهما عشرين عاما، يقول أبو الفرج: "فلما طالت الحرب وكاد العرب يأكل بعضهم بعضاً، أرسلوا إلى مالكٍ أن يحكموا بينهم ثابت بن المنذر أبا حسّان، فأجابهم إلى ذلك، فأتوه وقالوا: قد حكّمناك بيننا. قال: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: ولم؟ قال: أخاف أن تردّوا حكمي كما رددتم حكم عمرو بن امرئ القيس. فأعطوه عهودهم: أن لا يردّوا ما حكم به، فحكم أن يودي حليف مالك دية الصّريح، ثم تكون السّنّة فيهم على ما كانت به: الصّريح على ديته، والحليف على ديته؛ وأن يعدّوا القتلى التي أصابت بعضهم من بعض، فيقابل البعض بالبعض، ثم تعطى الدية لمن كان له فضلٌ في القتلى من الفريقين. فرضوا بذلك ففضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر، فودتهم الأوس واصطلحوا..وقيل: الخمسة المكملة لدية الصّريح أعطاها ثابتٌ من عنده حين أبت عليه الأوس أن تؤدي أكثر من خمس، وأبى مالك أن يقبل أقلّ من عشر؛ إطفاءً لنائرتهم، ولمّا لشعثهم".إن هذه الحكاية على وجازتها تشير إلى عدة أمور:أولا: رغبة الفريقين في الصلح ولكن عصبية الجاهلية وقفت حائلا بين هذه الغاية، فكان لا بد من قاض عاقل يحقق هذه الرغبة دون أن ينتقص من حق الطرفين.ثانيا: إن القاضي تأكد من رغبة الفريقين في الصلح، ولكنه أخذ عليهما العهد والميثاق في أن يرضيا بحكمه وينزلا على رأيه..ثالثا: لم يستطع القاضي أن يفصل في الدماء إلا بعد إحصائها، فالدماء لها حقوق وأصحاب الدم هم الأولى بأخذ الرأي ولذا بات معلوما عدد القتلى في الطرفين، حتى إذا تم الإحصاء تقدم خطوة أخرى وهي قبول الدية.رابعا: ولم تكن هذه الدية بالأمر الهين، فالعربي يجد من الأنفة قبول الدية، ولكنه استطاع بذكاء أن يقنعهم أن كلا منهما أخذ بثأره من الآخر، فهناك دماء مقابل دماء، وبقي بعض القتلى فهل نزيد في أعداد الدماء ثم نتصالح أم نقبل الدية ونتسامح؟ وساعتها رضي الطرفان بقبول الدية والمصالحة.خامسا: بقيت إذا اللحظة الأصعب وهي لحظة تنفيذ الحكم، والقاضي ضامن للتنفيذ، حيث إنه تحمل بعض ديات القتلى حتى لا يدب الخلاف مرة أخرى، ويطفي نار الحرب، وهنا نجد الإرادة والرغبة الصادقة في الصلح والنزاهة للقاضي أكبر ضمانات الصلح... والحديث موصول غدا إن شاء الله..