30 أكتوبر 2025
تسجيلفي معاجم اللغة أن ليت حرف مشبه بالأفعال، ينصب الاسم ويرفع الخبر، وهي حرف تمن، أي له صلة بالأمنيات ولكن من النوع المستحيل غالباً، نحو قول الشاعر ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ، ومن هنا يطلق الإنسان آهات عميقة من صميم قلبه يوم القيامة: يا ليتني قدمتُ لحياتي!. في الآية الكريمة من سورة الفجر، يخبرنا الله تعالى - كما جاء في تفسير الطبري - عن تلهُّف ابن آدم يوم القيامة، وتندّمه على تفريطه في الصالحات من الأعمال في الدنيا، التي تورثه بقاء الأبد في نعيم لا انقطاع له في الحياة الآخرة، يا ليتني قدمت لحياتي في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي الحقيقية هذه، التي لا موت بعدها. إن وصول الإنسان إلى هذه المرحلة، أمر حتمي، بمعنى أن أي أحد منا سيصل إلى هذه النقطة يوم القيامة، بغض النظر عن صلاحه أم فساده، فالإنسان يومئذ - كما جاء في تفسير ابن كثير - يندم على ما كان سلف منه من المعاصي، إن كان عاصياً، ويود لو كان ازداد من الطاعات، إن كان طائعاً، وقد جاء عن الإمام أحمد بن حنبل قال: لو أن عبداً خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرماً في طاعة الله، لحقره يوم القيامة، ولود أنه يردّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب. هكذا إذن الأمر، تعبٌ ونصبٌ وكبَدٌ في الحياة الدنيا، سواء كان في العبادة والعمل الصالح، أم في غير ذلك، مما يوجب الخسران، سيأتي العبد الصالح ويردد ما يردده الفاجر الفاسد الذي باع آخرته بدنياه.. الكل يردد يومها: يا ليتني قدمتُ لحياتي، الصالح يندم أنه لم يبذل جهداً أكبر وصرف وقتاً أطول في عبادة الله والإكثار من الخير، فيما الفاجر والفاسق والكافر ومن على شاكلتهم، يندم أحدهم على أنه لم يعمل ما ينفعه اليوم، حيث حساب ولا عمل. يومئذ يتذكر الإنسان لكن قبل أن يطلق الإنسان تلك العبارة، يكون قبلها دخل في مرحلة تذكر المشاهد العديدة من حياته الدنيا الفانية، حين غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء - كما يقول الشهيد سيد قطب في ظلاله - والذي أكل التراث أكلاً لمّاً، وأحب المال حباً جما، والذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين، والذي طغى وأفسد وتولى.. يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى، ولكن فات الأوان (وأنّى له الذكرى)، لقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحداً، وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا. حين تظهر له حقائق الأشياء يومها، تخرج العبارة من أعماق قلبه (يا ليتني قدمت لحياتي)، يا ليتني قمت بما أمرني ربي، يا ليتني ادخرت ما ينفعني لمثل هذه الساعة، ولمثل هذا الموقف، ولمثل هذه الحياة الحقيقية التي ستبدأ بعد قليل، فما كانت حياتي الدنيوية سوى رحلة قصيرة، ومع ذلك لم استثمرها بالشكل الصحيح، ولم أقم بما يجب القيام به.. هكذا يقول لسان حاله، ويواصل قائلاً: ها أنا أصل إلى ما أنا عليه الآن من أسف وندم وحسرة (ويوم يعض الظالم على يديه)، إنها لحظات لا تنفع معها حسرة، وندامة، وأمنيات، وغيرها. لقد خلقنا الإنسان في كَبَدٍ الإنسان منذ أن يبدأ يتنفس أكسجين الهواء بنفسه دون الاعتماد على أمه، يكون قد دخل حياة الكَبَد والمشقة، دون حاجة لأن نسرد بعض أشكالها ونشرحها، وقد يظن كثيرون أن الموت نهاية الكَبَد والمشقة، لكن الأمر يختلف بكل تأكيد، فإن انتهت مرحلة الكَبَد الدنيوي، فلا شك أن حياة أخرى بانتظار الإنسان في عالم البرزخ لا ندري كنهها، أيستمر الكَبَدْ وتستمر المشقة أم لا، لتأتي بعدها حياة أخرى ثالثة في الآخرة، هي التي نتحدث عنها، والتي يتمنى يومها البشر أن لو يعود بهم الأمر للحياة الدنيا تارة أخرى. لماذا؟ لتعويض ما ضاع منهم أو أضاعوه – إن صح التعبير – وهيهات ولات حين مناص. الكل ينتظر يومها ضمن مشاهد عديدة لا يمكن تصورها، ولكن نؤمن بها، كلنا ينتظر القضاء الإلهي أن ينتهي، ليعرف كل منا مستقبله الدائم الخالد، إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أو خارجها - والعياذ بالله - إذ حينها وحينها فقط، يتقرر للإنسان إن كان سيتخلص من الكَبَد أم لا؟ وفي هذه السياق، ننوه إلى أن حُسن الظن بالله في مثل هذه المسائل، أمر محمود ومرغوب ومطلوب. نعود لمحور الحديث، لنبين أن ما بين آية (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وآية (يا ليتني قدمت لحياتي) مفاهيم كثيرة يظل الإنسان يبتعد عن محاولات فهمها واستيعابها بشكل يثير كثير تساؤلات، كما لو أنه يتعمد عدم فهمهما!، ذلك أن التهافت والتقاتل والصراع على ما في الدنيا الحاصل الآن في كل بقاع العالم، بل منذ أن خلق الله آدم - عليه السلام - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى رغم أنها كلها توافه وهوامش، بل هي لا شيء - مقارنة بما في الآخرة – كل ذلك أمر يدعو للدهشة والاستغراب، فكيف يحرص المرء منا على شيء زائل زائل لا محالة، بل إضافة إلى حقيقة الزوال، ستكون هناك محاسبة دقيقة على الزوائل تلك، لاسيما إن كانت ستورث حسرة ونداما يوم القيامة؟. ما قيمة حياة كلها كبد وتعب ومشقة تنتهي ظاهرياً بالموت، ثم تنتظر من عاشها محاسبة دقيقة؟ وما قيمة حياة هي عند الله لا تساوي جناح بعوضة؟ وما قيمة حياة يصفها الخالق بأنها لهو ولعب؟ وما قيمة حياة يشبّهها الخالق بالماء النازل من السماء الذي من صفاته عدم الاستقرار وعدم البقاء على حال واحدة، وهذه كلها أوصاف الدنيا؟. إنها مسألة تدعو المرء منا إلى أهمية إدارة حياته بحكمة وفطنة، واستثمارها بأفضل ما يمكن، حتى لا يتكرر الكَبَد والعناء مرة أخرى في حياة أخرى حقيقية قادمة لا ريب فيها، فمن ذا الذي يرضى العيش في عناء ومكابدة مرتين متتاليتين من بعد أن أدرك وضوح الأمور والأشياء؟ من ذا الذي يريد تكرار قسوة وعناء الحياة الدنيا، ليجدها تارة أخرى في حياته الأخروية؟ لا أشك حكيماً عاقلاً يرضى بذلك، فضلاً أن يعمل بيديه لتلك النهاية المؤلمة، كما هو الحاصل الآن وبشكل غريب بين بني البشر!. الكيّس من دان نفسه لب الموضوع أو خلاصة ما أروم إليه هي كما في الحديث الصحيح المروي عنه – صلى الله عليه وسلم -: "الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموتِ، والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على الله الأمانيّ"، والكيّس في اللغة بشكل عام هو الإنسان الحازم الذي يغتنم الفرص، وفي موضوعنا ها هنا، الكيّسُ هو الحازم الذي يغتنم فرص الحياة الكثيرة ويستثمرها لما بعد الموت، هو الذي أدرك أن هذه الحياة الدنيا قنطرة للوصول إلى الحياة الآخرة، هو العاقل الذي يرسل الصالحات إلى خزائن أو بنوك الآخرة يودعها، كما يودع أحدنا أمواله في بنوك ومصارف الدنيا. الكيّس الفطن إذن هو من يغتنم الفرص، ونحن نعيش أفضل الفرص التي يمنحها الله لنا كل عام، وهو رمضان الكريم، هو فرصة من فرص الدنيا الممنوحة لنا لتنمية ودائعنا في بنوك الآخرة، ومن فاته ما فات من هذا الشهر، فقد بقيت أيام فاضلة، ربما تكون من ضمنها ليلةٌ خير من ألف شهر، فهل بعد هذه الفرص نتراخى؟، أيود أحدنا أن يعيش مشهد (يا ليتني قدمت لحياتي) في مستقبلنا الحقيقي القادم؟، بالطبع لا أظن أحداً يرغب في ذلك، أو هكذا المفترض أن يكون، وطالما الحال كذلك، فلنقدّم لحياتنا الآن وقبل فوات الأوان. [email protected]