14 سبتمبر 2025
تسجيليمكن النظر إلى العلاقة بين الجسد والوطن من أكثر من زاوية، فالوطن هو ذلك الجسد المعنوى، والجسد هو ذلك الوطن المادي، الوطن هو الوجود الممتد، والجسد هو الوجود الضيق. وتنعكس على الجسد كل معالم وثقافة وخصائص وملامح الوطن الكبير، فالإنسان يدرك الوطن من خلال ذاته، قبل أن يدخل فى أي علاقات مع الآخرين، وقبل أن يتحمل بالالتزامات أو يكتسب الحقوق التي يخوله إياها انتماؤه إلى وطن بعينه. والترادف بين الوطن والجسد يبدو أمرا مألوفا، وبخاصة فى أوقات الحروب، فانتهاك أجساد المواطنين يمثل فعلاً مقصودا من قبل "العدو" لتحطيم كبريائهم الوطني، أو لتحطيم رمزية الوطن الذي يمثلونه أو ينتمون إليه، ولذا كان الصهاينة يحرصون على تصوير أسراهم من العرب في أوضاع مهينة ومخجلة، ليحطموا معنى الوطن في نفوسهم من ناحية، ويزعزعوا الأوطان التي ينتمون إليها من ناحية ثانية، وذلك على اعتبار أن انتهاك الأجساد بالأسر والتعذيب والقتل والتشويه هو بمعنى من المعاني إذلال للوطن الذي ينتمي إليه هؤلاء. ولا يعنى ما سبق أن الجسد المعبر عن الوطن هو فقط جسد الجندي بما يرمز إليه من قوة وبسالة، ولكن كذلك جسد الفرد العادي، بضعفه وهشاشته، جسد الفرد الذي قدر له ان يحيا على أرض بعينها فى زمن بعينه. بحيث يمكن القول إن انتهاك جسد أضعف مواطن هو انتهاك للوطن بأكمله، وان إهانة جسد أقل الناس شأنا هي إهانة لدولته التي ينتمي إليها. ومن هنا نفهم حرص الدول الغربية على كرامة مواطنيها فى أوقات السلم وفي أوقات الحرب، وتدخلها فورا لإزالة أى انتهاك او امتهان قد يتعرضون له.أما في أوطاننا فالأمر الغريب أن يأتي انتهاك وامتهان الأفراد على يد مواطنيهم، وبواسطة المؤسسات التي أنشئت في الأصل لتحافظ عليهم، والتي كان يفترض فيها ألا تستبيح أجساد أبنائها، فتنتزع بذلك معاني الوطنية من نفوسهم، أو تحدث انفصاما بلا رجعة في قلوبهم بين ثنائية الوطن والجسد، فلا يعودوا يشعرون بما يربطهم بأوطانهم من وشائج وصلات. لقد أدركت الأنظمة الأكثر رقيا أهمية هذه الثنائية فأقلعت عن معظم العقوبات المهينة للكرامة والمحطمة لمعاني الانتماء، وانصرف تركيزها على تأكيد حتمية العقوبة لتحقيق الردع، كما توقفت عن اعتبار الإسراف فى العنف تأكيد للقدرة الباطشة للدولة، فتم الاستعاضة عنه بالعقوبات القانونية المجردة التي ترمي إلى تحقيق الانضباط الجسدي. بحيث لم يعد إيقاع العذاب بالأفراد تعبيرا عن قوة الدولة أو هيبتها، وإنما أصبح ينظر إليه على أنه خصم منهما معا.وعلى العكس يشهد عالمنا العربي توسعا في اللجوء إلى إجراءات الانتهاك الجسدي للمواطنين بالاعتقال، والتعذيب، والإيذاء النفسي، وهدم المنازل، والتجريم على أساس الهويات السياسية، وانتهاء بإصدار أحكام قضائية تجافي العدالة والمنطق، كيما تضفي غلالة واهية من القانون على قرارات تسلبهم حرياتهم وحياتهم. حتى تحولت العديد من أوطاننا إلى سجون كبيرة، يدور النقاش فيها حول شروط الحبس، وظروف الاعتقال، وليس حول عدالة أو قانونية أي منهما، حتى سمعنا أحد الأكاديميين المعروفين مؤخرا يوصي بعزل المعتقلين من الشباب المقبوض عليهم لأسباب سياسية، عن المجرمين الجنائيين، على افتراض أن هذا أفضل ما يمكن أن يقدم لهؤلاء، أما مناقشة عدالة الاعتقال نفسه، آو عدالة الأحكام التي تصدر بحق هؤلاء الشباب فلم تعد تشغل بال الكثيرين. على الرغم من تأثيرها الكارثي عليهم. إن انتهاك الأجساد هو نزع بطيء لمواطنية الأفراد، وقطع للرباط الذي يربطهم بأوطانهم، وانتهاجه كسياسة لن يسفر إلا عن نتائج كارثية، فهو كما يحرم الفرد من مزايا الانتماء إلى وطنه، فإنه يحرم الوطن من الاستفادة بولاء أبنائه وانتمائهم له، عندما يحتاج إلى اصطفافهم للدفاع عنه أو للذود عن وجوده ومصالحه. لقد ضاقت الكثير من أوطاننا بأهلها، وأصبحت علاقتها بمواطنيها علاقة التزام من طرف واحد، فهي تحملهم بالواجبات من دون أن تمنحهم حقوقا، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى الانصراف إلى الاهتمام بأمنهم الشخصي وسلامة كيانهم المادي، فالأمن الجسدي، هو آخر ما تبقى لهؤلاء من معاني المواطنة. ولكن أن تتردى الأوضاع إلى حد حرمان الأفراد حتى من أمنهم الشخصي وسلامتهم الجسدية، فإن هذا ينذر بموجة جديدة من الثورات، التي لن تكون كسابقتها؛ تبتغي الحرية والعدالة والمساواة، ولكنها تبحث عما هو أكثر أولية من ذلك، وهو حماية الكينونة الشخصية والحق في الحياة.