19 سبتمبر 2025
تسجيلفي كل يوم يغادرنا إلى دار القرار بعض الرموز والأعلام التي كرست حياتها في حب وطنها.. والذين ستظل ذاكرة قطر تتذكرهم وتفخر بسيرهم نظير ما قدموه لهذا البلد الذي – بلا شك – لن ينساهم حتى في أحلك الظروف. بالأمس القريب غادرنا إلى الرفيق الأعلى رجل الأعمال وأحد تجار زمن الغوص على اللؤلؤ في قطر.. والذي لم تكن سمعته تنتشر على نطاق قطر فقط.. بل تجاوزت الحدود وعرفه تجار الخليج وبلدان آسيا وافريقيا بسبب تعلقه بهم وبسبب اتساع تجارته التي مارسها خاصة في زمن الغوص عبر العمل في صيد اللؤلؤ وممارسة تلك التجارة الحرة التي أعقبت فترة كساد الغوص وحينها سادت فترة تردي بيع اللؤلؤ الطبيعي حين ظهور اللؤلؤ الياباني الصناعي الذي واجهه أهل قطر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بكل بسالة وشجاعة. فاستبدلت حياتهم إلى مشاريع تجارية أخرى ناجحة ساهمت في بناء انفسهم من جديد وبناء اوطانهم رغم التحديات والصعوبات التي مروا بها خلال تلك السنوات العجاف التي عبروا منها بسلام رغم الفقر والمجاعة والفاقة التي ألمت بأهل الخليج وتجارها وهي ظاهرة نالت ايضا في المقام الأول من الأسواق العالمية.. ولم تقتصر على تجار قطر فقط. فقد عاصر هؤلاء تلك الفترة العصيبة من حياة شظف العيش وبحثوا عن البدائل لنيل بعض المكاسب التي اجتهدوا في الحصول عليها بالرغم من انتشار بعض الأمراض والأوبئة التي اهلكت الحرث والنسل وفعلت ما تفعله النار في الهشيم دون هوادة. فقد ظهرت في مجتمعنا وعبر تلك الفترة التاريخية أمراض اثرت في النفوس وقتلت من قتلت ودمرت الاقتصاد وجعلت من حياة الغوص على اللؤلؤ حياة لا قيمة لها بالرغم من انهم كانوا يؤمنون اشد الايمان بالمثل الشعبي الأصيل الذي يقول: " الغوص قرن من قرون الدنيا " كناية عن الديمومة وعدم زوال الشيء.. إلا ان قدر الله قد حان وعم المنطقة في ذلك العصر وهيمن الجوع والبؤس على الجميع دون استثناء. خليل الجيدة أبرز التجار وحينها كان الفقيد خليل إبراهيم يوسف الجيدة (1923 - 2020) الذي انتقل إلى جوار ربه يوم 29 مارس 2020 م أبرز رموز مجتمع الغوص على اللؤلؤ في قطر والخليج العربي.. وقد كان الفقيد يعالج في المملكة المتحدة لمدة (8) سنوات قبل رحيله إثر مرض عضال ألم به.. ويعده الكثير بانه من الشخصيات التي واصلت نجاحها بعد كساد الغوص ولم يستسلم للتحديات بل قاد عمله الخاص بكل قوة.. فنجح في تحقيق ثروة كبيرة من جراء تجارته فقد كان من التجار المعدودين في تلك الفترة.. ولم يستقر عمله في الدوحة بل تنقل بين العاصمة وبلدات قطر الساحلية ليمارس تجارته – كما يقول الرواة – فتوجه إلى شمال شرق قطر الساحلي لفترة من الزمن مثل " بلدة الغارية " وما جاورها.. واشتهر ببيع المواد التموينية والغذائية ومواد تمويل السفن ومستلزماتها وبخاصة سفن الغوص على اللؤلؤ والاسفار.. وان كانت شهرته في الدوحة التي عاش فيها اغلب فترات حياته هي الأكثر نشاطا.. فهو من مواليد " حي الجسرة " الذي يعرفه القاصي والداني ويعرف تجاره بسوق واقف في ذلك الحين.. ومن منا لا يعرف " الخريس " الذي هو بمثابة العنوان والدليل لمن يقطن في ذلك المكان. ومن المواقف التي تذكر عنه كما يسردها لي والدي – أطال الله في عمره – ان خليل الجيدة كان ابرز التجار الكبار في الدوحة وقد قدم لممارسة تجارته في " بلدة الغارية " التي عاش فيها والده ( أي جدي ) النوخذة والربان سعيد بن أحمد آل كليب الكواري من تجار الغارية في تلك الفترة والمتوفي عام 1950 م.. حيث كانت بينهما صولات وجولات في العمل التجاري خاصة بعد كساد الغوص وضعف الموارد في تجارة اللؤلؤ.. حيث عمل معه في " تجارة القطاعة " ويقصد بها البيع بالجملة كما هو معروف التي انتشرت بين الناس قبل ظهور النفط بشكل خاص أي قبل عام 1949م الذي تم فيه تصدير اول شحنة نفط الى العالم الخارجي في عهد حاكم قطر الراحل الشيخ علي بن عبدالله آل ثاني. جزء من سيرته الذاتية ومما يذكر عن سيرة الفقيد خليل الجيدة انه كان متزوجا ولديه من الأبناء: ناصر – إبراهيم – بدر – عبدالرحمن – أحمد.. وله بعض الإناث أيضا.. أما إخوان الفقيد فقد ماتوا جميعا وهم: يوسف – محمد – عبدالرحمن – عبدالله – جاسم.. وقد تأثر في تجارته بوالده إبراهيم بن يوسف الجيدة الذي أسس مجموعة شركة الجيدة حوالي عام 1959 م والتي انطلقت قبل ذلك من خلال " الحفيز " وهو الاسم الدارج لمكتب أي تجارة في السابق.. والكلمة مشتقة من الإنجليزية ( office ) وقد انطلق هذا " الحفيز " حوالي عام 1882 م تقريبا.. وقد كان الفقيد يهتم بجمع حاجاته في صندوق كبير يشبه " خزينة البنك العثماني أو البريطاني " ما زال يحتفظ به أبناؤه الكرام وتضم العديد من الأوراق الوثائقية والمخطوطات والاسطوانات الغنائية القديمة " اسطوانات القار " كما يطلق عليها قديما حيث كان الفقيد مهتما ومستمعا جيدا لأصحاب فن الصوت الشعبي في الخليج في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي مثل: " محمد بن فارس وضاحي بن وليد ومن بعدهما محمد زويد " من البحرين بجانب الفنان العراقي الشهير " حضيري بو عزيز " والملاية "وناظم الغزالي "وغيرهم كثير.. ومن هوايات الوالد خليل الجيدة التي ارتبط بها جمع السيارات القديمة "الكلاسيك " بجانب هواية ركوب البحر والأسفار.. أما أهم أصدقاء الفقيد أيام الطفولة فنذكر منهم: محمد بن حمد المانع وسعد المانع والشيخ محمد بن حمد بن عبدالله آل ثاني وأبناء عائلة النصر واليوسف.. وغيرهم.. ويعتقد بعض أصدقاء الفقيد الراحل بان عمره وصل المائة عام أو تجاوزها بقليل أي انه من مواليد عام 1920م أو قبل ذلك بسنة أو سنتين.. وقد رثاه بعض الشعراء منهم الشاعر الشعبي " صلاح الظفيري ". كلمة أخيرة رحم الله الوالد ورجل الغوص على اللؤلؤ خليل الجيدة.. الذي لا شك سيتذكره الوطن وأبناء هذا الجيل والأجيال القادمة نظير ما قدم من صفحات لا تنسى في ذاكرة زمن الطيبين الذي لن يمحى من تاريخنا الاجتماعي والاقتصادي في السابق.. رحمك الله يا "أبو ناصر" وإلى جنان الخلد بإذن الله تعالى "إنا لله وإنا إليه راجعون". [email protected]