13 سبتمبر 2025

تسجيل

لا تسكت عن حق لك

06 فبراير 2020

ما أبشع أن يكون الإنسان ضعيفاً لا يعرف كيف يأخذ حقاًمن حقوقه قصة المغفلةللأديب الروسي تشيخوف تعكس قضية تجاهل الحقوق التغافل فعلإرادي ناتج عن إحاطة وإلمام وإدراك بما يدور العنوان أعلاه ليس تحريضاً لأحد ضد أحد، لكنه بكل تأكيد دعوة لكل أحد لعدم القبول المستمر بدور الضحية في مسلسل الحياة، والتحجج بسيل من الأعذار لأجل اقناع النفس بما تم ضدها من سلب للحقوق، مع ما يصاحب ذاك السلب عادة، الكثير من الإذلال والامتهان، ونشوء قهر داخلي مكتوم لا يؤدي عادة إلى عاقبة محمودة.. فما الحكاية؟ دفعتني قصة قصيرة للأديب الروسي أنطون تشيخوف بعنوان المغفلة، إلى الحديث عما يحدث لكثيرين منا في مشاهد ووقائع هذه الحياة، من ظلم وقهر وجبروت الآخر، لا يجد أغلبنا سبيلاً لدفعه، فلا يكون إلا السكوت والإعراض وتجاهل الحقوق، طريقة وحيدة للتقليل من الخسائر المادية والمعنوية قدر المستطاع.. وحتى لا نطيل في المقدمة، لنقرأ بعض مشاهد القصة.. وخلاصتها أن نبيلاً دعا مربية أطفاله إلى مكتبه لتسوية الأمور المالية بينهما.. تبدأ القصة على لسان النبيل بقوله: منذ أيام دعوتُ إلى غرفة مكتبي مربية أولادي يوليا لكي أدفع لها حسابها. - قلت لها: اجلسي يا يوليا لنتحاسب. أنتِ في الغالب بحاجة إلى النقود ولكنك خجولة إلى درجة أنك لن تطلبيها بنفسك. لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلاً في الشهر، - قالت: أربعين. - قلت: كلا، ثلاثين. هذا مُسجلٌ عندي، كنت دائما أدفع للمربيات ثلاثون روبلا. - لقد عملتِ لدينا شهرين. - قالت: شهرين وخمسة أيام. - قلت: شهرين بالضبط. هذا مُسجلٌ عندي. إذن تستحقين ستين روبلاً. ونخصم منها تسعة أيام آحاد، فأنتِ لم تعلّمي الصغار في أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معهم فقط، ثم ثلاثة أيام أعياد.. وهكذا كان يحاسب النبيل مربية أطفاله حتى بدأت تبكي بسبب تطاير مستحقاتها هكذا بشكل غريب. يتواصل مشهد الحساب بين النبيل والمربية.. حتى وصلت مستحقاتها إلى أحد عشر روبلاً فقط من أصل ثمانين، وقد امتلأت عيناها بالدموع وهي لا تدري ما هو التصرف السليم مع الذي يحدث لها.. يقول النبيل لمربية أطفاله: ها هي نقودك يا عزيزتي. فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة، وهمست: شكراً. يقول النبيل: انتفضتُ واقفاً وأخذتُ أروح وأجيء في الغرفة وقد استولى عليّ الغضب. ثم سألتها مندهشاً عن شكرها لي وقد سلبتها أو سرقت حقوقها. - قالت: في أماكن أخرى لم يُعطوني شيئاً ! - قلت: لم يعطوكِ؟ أليس هذا غريباً ؟ تنتهي القصة بدرس قاس بعد أن شرح لها أن كل ما دار بينهما كان مزحاً ولكن في الوقت نفسه درساً قاسياً لها. فأعطاها حقها بالتمام والكمال.. لكنه سألها قبل أن تغادر: لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكُتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادة الأنياب؟ هل يمكن أن تكوني مُغفلة إلى هذه الدرجة؟ فقالت: يمكن.. ثم غادرت وأنا أتطلع إلى أثرها مندهشاً من هذه النوعية من الناس. فما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا. نعم، ما أبشع أن يكون الإنسان ضعيفاً لا يعرف كيف يأخذ حقاً من حقوقه من كل ظالم متكبر جبار. وقد يقول قائل هاهنا بأن التغافل أحياناً عن بعض الحقوق، فيه من الخير الكثير، ودفع لضرر أو شر أكبر.. أجد نفسي متفقاً مع هذا الرأي، لكن بشرط ألا يكون التغافل طبعاً متلازماً مع الشخص في كل أموره ومع أي أحد، بحيث تضيع عنده الحسابات والأولويات ومنها حقوقه بالطبع. الغفلة والتغافل، كلمتان بينهما فرق كبير. الأولى أمر طبيعي ناتج عن قلة علم أو جهل بالشيء أو الأشياء، فيما التغافل فعل إرادي ناتج عن إحاطة وإلمام وإدراك بما يدور في البيئة المحيطة.. هذا يعني أن التغافل أقرب إلى أن يكون حكمة من الإنسان حين يقوم به في موقف ما، بل ربما يصل التغافل لأن يكون مهارة نحتاج إلى التدرب عليها واكتسابها لأجل علاقات إنسانية راقية في بعض مشاهد الحياة. إذ في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا مضطرين إلى استخدام مهارة التغافل في بعض المواقف الحياتية، لا لشيء سوى رغبة في كبح جماح موقف ما قد يتطور ليصبح ناراً تلظى، أو رغبة في السيطرة على أجواء حدث معين يوشك أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه، فيضطر أحدنا إلى هذا الفعل أو هذا الخُلق أو هذه المهارة. مسألة السكوت عن الحقوق عند البعـض وعدم متابعتها أو الإلحاح في طلبها قبل اللجوء إلى انتزاعها بقدرة قادر، رغبة في اتقاء شر قد يأتي أو رغبة في بقايا منفعة من طرف ذاك الذي يسلب ويظلم ويأكل حقوق الناس بالباطل، فيها بعض الحكمة أحياناً. لكن ليس من الحكمة أبداً الاستمرار على ذلكم النهج، لأنه تفريط واضح في الحقوق، بل ودعوة صريحة للآخر أو آكل الحقوق، أن يستمر في ظلمه والاعتداء على حقوق العباد. وبالتالي يمكن اعتبار ذاك السلوك نوعا من أنواع معاونة الظالم على استمرار ظلمه، فيما الأصل هو ردعه بصور متنوعة، مرة تلو أخرى. أما أن يتغاضى صاحب الحق عن حقوقه لأي سبب من الأسباب، المرة بعد الأخرى، فهذا ما لا يجب أن يصدر عن المرء نفسه، كيلا تتكاثر الحالات الشبيهة وتتحول إلى ظاهرة عامة في المجتمع، تصعب السيطرة عليها بعد حين من الدهر، طال أم قصر. من هنا تأتي أهمية دور وسائل الإعلام في التوعية القانونية في مسائل الحقوق وكيفية انتزاعها نزعاً من آكليها، إن كان أكلهم للحقوق عن عمد، مع سبق إصرار وترصد. وقبل ذلك بيان خطورة لجوء آكلي الحقوق لمثل تلك الأساليب غير الإنسانية والشرعية والقانونية في التكسب الفاحش الظالم، من يتيم ذا مقربة أو مسكين ذا متربة أو مغلوبة على أمرها، وغيرهم كثير كثير، ممن لا سند أو ظهر لهم.. في الحديث:" انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله، كيف أنصره ظالماً ؟ قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه ". وصورة من صور منع الظالم أن يستمر ويتجاوز حدوده، هي عدم السكوت أو الرضوخ لابتزازاته، وأهمية اللجوء إلى المحاكم البشرية وإن طال الأمد. فإذا فشل البشر في رد الحقوق لأصحابها، فإن هناك دوماً وأبداً، رب البشر واللجوء إليه، فهو حسبُ كل مظلوم ونعم الوكيل.. فهكذا إيماننا، وتلكم هي عقيدتنا. [email protected]