13 سبتمبر 2025

تسجيل

مثالية في غير موضعها

06 فبراير 2013

تختلف السياسة الموجودة في كتب العلوم السياسية عن تلك التي تمارس على أرض الواقع، فالأولى توضع بشكل مبسط ومجرد بل ومثالي في بعض الأحيان، أما الواقع فهو أكثر تعقيدا والتباساً وبعدا عن المثالية. ومن ثم تعد مشكلة الوافدين الجدد إلى عالم السياسة (مثل معظم الإسلاميين) أنهم قد يستدعون مثاليات علم السياسة لكي يطبقوها في متاهات هذا العالم الوعر. ومناسبة هذا الحديث هو ما تطرحه بعض أطياف التيار الإسلامي من مبادرات من أجل استنقاذ الوضع السياسي المضطرب وتحقيق نوع من التوافق مع الفرقاء والمعارضين. ولعل أبرز ما طرح في هذا الصدد مؤخرا مبادرة حزب النور السلفي، والتي حاول من خلالها أن يحقق نوعاً من التوافق مع قيادات جبهة الإنقاذ المعارضة. وقد تضمنت هذه المبادرة عددا من النقاط التي كان الإنقاذيون يملأون الدنيا صخبا من أجل محاولة إقناع الناس بجدواها، من مثل إعادة النظر في الدستور، وإقالة النائب العام، وإلغاء مادة العزل السياسي، وإقالة الحكومة الحالية توطئة لتشكيل حكومة جديدة تضم رموز المعارضة. ولا تكمن المشكلة في مبدأ "طرح المبادرات" في حد ذاته، ولكن في أن الكثير من عناصر هذه المبادرات يتضمن قدرا من المثالية التي ربما لا تتلاءم مع طبيعة الأوضاع، ولا طبيعة الأطراف التي تقدم لها هذه المبادرات. فمن من العقلاء يمكن أن يصدق أن حل المشكلة الاقتصادية مثلا يكمن في إقالة النائب العام، أو أن أزمة البطالة يمكن أن تنفرج متى تم تعديل بنود الدستور. إن الاضطراب الحقيقي الذي تشهده هذه المرحلة من مراحل الثورة ينبع من تنامي قلق الكثيرين من ضعف أداء الطبقة الحاكمة، ومن حقيقة أنها قد لا تمتلك رؤية واقعية لتحسين ظروف المعيشة. أما ما تطرحه المعارضة من موضوعات مثيرة للجدل فهي تمثل قضايا تقلقها هي ولا تقلق أحدا سواها. من ناحية أخرى فإن رموز الجبهة المستهدفين بهذه المبادرة لا يؤمنون بالمثالية السياسية التي يتصرف على أساسها حزب النور، وإنما هم على العكس يستغلون كل الفرص من أجل إحراز مكاسب ضيقة ولو على حساب مصلحة الوطن بأكمله. فهم يحاولون قطع الطرق الشرعية لاستكمال مؤسسات الدولة، وحل ما هو قائم منها، كما يستميتون من أجل استباق الانتخابات القادمة بإحداث أكبر قدر من الضغط السياسي عبر سبل متعددة منها توفير غطاء لأعمال العنف، والمناداة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وصولاً إلى حد مطالبتهم صراحة بإسقاط النظام. ولا ننسى كيف أفصح العديد من رموز هذه المعارضة عن انتهازيتهم السياسية عندما قرروا الانسحاب على نحو جماعي من الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، ضاربين بعرض الحائط كل ما كان قد تم التوافق حوله من مواد. ثم جاء انسحابهم الجماعي من وثيقة الأزهر ليؤكد نفس هذه الروح، خاصة أن هذه الوثيقة لم تكن تدعوا لأكثر من نبذ العنف وحرمة الدماء، الأمر الذي يثير علامات استفهام حول حقيقة قبولهم لمبادرة حزب النور رغم أنها تؤكد في فقرتها الأولي على نفس ما تؤكد عليه وثيقة الأزهر من نبذ العنف وحرمة الدماء، بل إن وثيقة النور تتضمن ما لا تتضمنه وثيقة الأزهر من دعوة القوى السياسية المختلفة (في إشارة واضحة إلى الجبهة) إلى عدم توفير غطاء سياسي لكل من يستعمل العنف أو التخريب كأداة للتعبير عن الرأي، اللهم إلا لو كان هدف جبهة المعارضة من القبول بمبادرة حزب النور هو إحداث نوع من الانقسام بين الإسلاميين، وتحديدا بين السلفيين والإخوان. إن المعارضة الصاخبة، وعلى رأسها جبهة الإنقاذ، تعبر في هذه المرحلة عن نفسها بأكثر مما تعبر عن الجماهير التي تدعى الحديث باسمها، وتخشى بالضرورة مما يمكن أن تسفر عنه الصناديق في الانتخابات التشريعية المقبلة، أو بعبارة المفكر القبطي رفيق حبيب تخشى الانكشاف المجتمعي، حيث تظهر خيارات الأغلبية وخيارات الأقلية. هذه النخبة كانت في كل محطة هامة من محطات الثورة تحاول أن تتجنب الاحتكام إلى إرادة الشارع، وكانت تظهر تعاليا واشمئزازا من خيارات عموم الناس، وتميل إلى من بيده القوة عله يساعدها في تجاوز عقبة ضعفها الشعبي. ولعل إصرار أحد رموز هذه النخبة على استدعاء الجيش في أي حوار وطني مقبل يفصح بوضوح عن طبيعة تفكير هذه النخبة "المدنية" التي حاولت في السابق الاستقواء بالغرب كما تحالفت فعليا مع قوى النظام السابق من دون أن تستشعر أي خجل. وعلى حد قول القبطي الوطني رفيق حبيب، مرة أخرى، إن التوافق يشير إلى التزام كافة أطراف العملية السياسية في مجتمع ما بنسق أخلاقي صارم، وهذا الالتزام هو ما يحفظ للمجتمع تماسكه، على اعتبار أنه يتعلق بالحد الأدنى من الموضوعات والقضايا التي لا يمكن التنازع حولها، والتي عادة ما تكون مرتبطة بهوية المجتمع ومصالحه العامة. هذا الحد الأدنى من الموضوعات والقضايا هو الضمانة ألا يتحول أي خلاف في المستقبل إلى تناحر حول المبادئ والقواعد العامة. ولا يتضمن هذا المفهوم للتوافق تنازلات ولا انتقاصا من حقوق القوى والجماعات التي يتكون منها المجتمع، وإنما هو على العكس يتعلق دائما بجملة من الضمانات التي توفر للجميع قدرا من الاستقرار الضروري لممارسة كافة المناشط الأخرى. فمتى يمكن أن ترتقي المعارضة إلى هذا المستوى من فهم التوافق، بدلاً مما تتفرغ له من شحن إعلامي وتصعيد اكتسى في الآونة الأخير بطابع من العنف غير المسبوق.