17 سبتمبر 2025
تسجيلسوف تترك الانتفاضة الشعبية في مصر آثارها وتداعياتها في كل اتجاه، سواء بقي النظام أو الرئيس أم تغير الرئيس دون النظام أم تغير النظام برمته. فما حصل منذ 25 يناير وحتى اليوم من حركة اعتراض شعبية وشبابية ومدنية كان جديدا على التاريخ المصري الحديث وغير مسبوق في طبيعته وطريقته.بل حتى في أهدافه التي لا تزال تحيّر الكثيرين: هل هي "ثورة" سياسية أم اقتصادية تتصل بشؤون المعيشة أم أنها وطنية ببعد قومي متصل بالصراع العربي – الإسرائيلي وبمجمل الدور المصري في محيطها وفي العالم العربي والإسلامي. الأيام المقبلة سوف تفصل الخيط الأبيض من الخيط الأسود فيما يتعلق بهذه القضايا. لكن ما لن يُطوى ولن يعرف كيف ستتداعى إفرازاته هو المواقف العربية والإسلامية والدولية مما يحصل في مصر. كان واضحا أن الولايات المتحدة والغرب قد فوجئت بالانتفاضة لكن حصول انتفاضة تونس قبل ذلك جعل الغرب يتعامل بطريقة أكثر ذكاء،ولكن خبثا، مع وقائع الانتفاضة المصرية.من جهة كانوا مستعدين للتضحية بالرئيس حسني مبارك لكن ليس بأي ثمن.إذ لم يكونوا ميالين إلى تسجيل سابقة خلع رئيس موال لهم عبر الشارع،لأنها لعبة الدومينو التي بدأت في تونس وسعى الغرب إلى وقفها في القاهرة وإيقاف النظام على قدميه. وبما أن مصر هي مصر كامب دايفيد ومصر حارسة الكيان الإسرائيلي ومصر سجّان الفقراء والحفاة في غزة،فكل شئ يتغير ويصبح أمن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل من أمن مصر.لذا أن قول المسؤولين الأمريكيين والغربيين أنهم يريدون التغيير في مصر واتخاذ خطوات ديمقراطية ليس،من جهة أخرى، سوى خديعة لوأد الانتفاضة ومصادرتها. العالم العربي حتى الآن يلتزم الصمت المريب.ليس من بيان رسمي واحد يقول نعم للانتفاضة ولا للنظام ورئيسه.بل إن البعض أعرب جهارا عن دعمه لمبارك ونظامه. النظام العربي بمختلف اتجاهاته متضامن فيما بينه.الحرية والديمقراطية خط وخطر أحمران لدى الجميع. وحده الجوار العربي من إيران إلى تركيا كان صريحا في التعبير عن رأيه. لا يمكن إخفاء سرور إيران من الضغوط التي يتعرض لها النظام المصري.فالموقف المصري من سياسات إيران في المنطقة كان الأكثر حدة وعداء، ويفوق حدة وعداء موقف أي نظام عربي آخر.ليس فقط لتعارض التوجهات السياسية بل لأن الدعم الإيراني لحركة حماس وقطاع غزة جعل النظام المصري يتحسس الحضور الإيراني داخل غرفة نومه أو هكذا تخيّل وما يعنيه ذلك من تصاعد النفوذ الداخلي للإخوان المسلمين. الإطاحة بالنظام المصري بتوجهاته السياسية الحالية هو مصلحة إيرانية ويدعم معركة إيران مع الغرب وضد إسرائيل.لذا أبدت إيران بلسان بعض مسؤوليها وببيان لخارجيتها أملها في تحقيق التغيير في مصر من أجل شرق أوسط إسلامي.في ظل التوتر والعداء المصري لإيران من الطبيعي أن يكون الموقف الإيراني كما ظهر عليه وليس هو بجديد أو مفاجئا. مع أن مصر كانت متحسسة من التوجهات الجديدة للسياسات التركية والتي من عناوينها إقامة علاقات جيدة مع "أعداء" النظام المصري مثل سوريا وإيران، واحتضان حركة حماس في غزة وإحراج مصر في محاولة كسر الحصار على غزة واتخاذ مواقف شديدة من إسرائيل في وقت تنسج فيه مصر مبارك تحالفا مع إسرائيل. رغم كل ذلك فإن القيادات التركية كانت حريصة على إبقاء الخطوط مفتوحة مع مصر مبارك.وكان الرئيس التركي عبدالله جول رمزا لذلك الاحترام التركي لمصر. وكذلك كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يحرص على تكرار زياراته إلى مصر والالتقاء بالمسؤولين المصريين والتأكيد على أن تركيا لا تصادر الدور المصري ولا تريد أن تكون بديلا منه بل مكملا له. ولم يخرج رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان عن هذه القاعدة فكان يراعي دائما العلاقات الجيدة بين البلدين في العصر الحديث ولا يحاول أن يستفز مصر في أي موقف. لكن السياسات التركية الجديد كانت تتعارض عمليا مع السياسات المصرية في معظم الملفات من حماس والمصالحة الفلسطينية إلى سوريا وإيران والإخوان المسلمين والعلاقة مع إسرائيل. لذا فإن أنقرة لا يمكن إلا أن تنظر بارتياح إلى أي سقوط للرئيس حسني مبارك. لكن أحدا لم يكن يتوقع أن يطالب أردوغان،في موقف يذكّر بوقفته في دافوس تجاه شمعون بيريس، الرئيس المصري بالرحيل وأن لا حل خلاف ذلك. هذه سابقة في العلاقات بين مصر وتركيا العريقتين في تقاليد الدولة والدبلوماسية.وهي تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الثنائية بحيث لا يمكن لأي تركي في المستقبل أن يحتج على أي تدخل مصري في المستقبل في الشؤون الداخلية التركية إذا ما قرر ذلك مسؤول مصري يوما ما. المصريون بمختلف انتماءاتهم يختلفون على كل شئ لكنهم يجتمعون على أولوية" الوطنية المصرية" التي تجعل حتى التيارات المعارضة في مصر ومنهم التيار الديني تعارض أدوار الدول الخارجية في حال كان يمس أو يضعف "الوطنية المصرية" حتى لو كان ذلك بقيادة حسني مبارك ومن خلفه "نجم" الخلاف التركي- المصري وزير الخارجية أحمد أبو الغيط. وحده سقوط مبارك يمكنه إخراج العلاقات التركية المصرية من النفق المسدود التي هي فيه الآن. ووحده نظام جديد بتوجهات جديدة تجاه الصراع مع إسرائيل يمكن أن يعيد العلاقات التركية المصرية إلى سكّتها الطبيعية. شئ واحد يمكن أن يفسّر "وقفة" أردوغان الجديدة وهو أن الدول تنتزع أدوارها بما تمتلك من فائض قوة.وتركيا امتلكت، بسياساتها التاريخية والإيجابية تجاه فلسطين والعرب والمسلمين، مثل هذا الفائض الذي لا يعرف حدودا ولو كان النيل الدافق حدّ هذه الحدود.