29 أكتوبر 2025

تسجيل

ولو رتعـت لرتعـوا !

05 ديسمبر 2019

الرتع في اللغة، وقبل الخوض في حديث اليوم: هو العيش في رخاء ونعيم. وقد جاء عن علي بن أبي طالب قال للفاروق عمر - رضي الله عنهما – حين جاءت غنائم فتح بلاد فارس إلى المدينة في تعليق له على كلام عمر (إنّ قوماً بعثوا هذا لأمناء) فيقول له علي:" يا أمير المؤمنين: عففتَ فعفوا، ولو رتعت لرتعوا ". يريد أن يقول علي للفاروق بعبارة أخرى: لقد كنت أميناً قبلهم يا أمير المؤمنين، فاقتدوا بك في الأمانة. وبدأت بالعفة عن المال العام فعفّـوا مثلك، ولو أنك رتعت في المال العام لرتعوا، ولو سرقت منه لسرقوا. هكذا كانت الأمور واضحة عند سلف هذه الأمة، وهذا الوضوح في الرؤية كان وسيكون سبباً رئيسياً للمضي في أداء الأمانة كما أوجبها الله عز وجل. قال رجل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه:" يا أمير المؤمنين، لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى. فقال له عمر:" أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر، فجمعوا منهم مالاً وسلموه إلى واحد منهم ينفقه عليهم. فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم ".. لاحظ وضوح الأمر عند عمر. هو ليس بأكثر من شخص اختاره الناس ليقودهم، وما كان اختيارهم إلا لأمانته، فهل يخونهم بعد تلك الثقة الغالية؟ هكذا كانت قيمة الأمانة عند ذاك السلف الرائع. اليوم حين نتحدث عن مسألة الاختيار للمناصب والمسؤوليات والوظائف العامة، نجد أن المعايير تختلف كثيراً عن تلكم التي كانت عند سلفنا الصالح. وعلى رغم أن فترتهم كانت قصيرة، لكنهم كانوا نماذج تصلح للاقتداء في كل زمان ومكان، لكن ما يحدث اليوم في كثير من الجغرافيات، هو العكس تقريباً دون كثير شروحات وتفصيلات. من كان يتولى أمر الناس في وقت ما – وأتحدث عن النماذج والقدوات طبعاً – كان يضع مراقبة الله له في كل خطواته أمام عينيه. لا يغفل عنها البتة، بل كان يحاسب نفسه على كل صغيرة وكبيرة قبل أن يحاسبه أحد من الرعية، فقد كانت رؤيتهم الاستراتيجية تتمثل بكل اختصار، في إدارة أمينة حكيمة واعية لشؤون الحكم وسياسة الناس كما أمر الله، وأحدهم يأمل ويرجو توفيقه من أجل نيل رضاه سبحانه أولاً، ومن ثم كي يؤدي الأمانة التي ائتمنه الناس عليها كما يجب، بل ويأمل أن يخرج لا له ولا عليه، فتلك نتيجة تمناها شخص عظيم مثل عمر الفاروق، وهو من هو يومئذ في أمانته وورعه. قيل إن رسولاً قدم على الخليفة عمر بن عبدالعزيز. فلما دخل عليه، دعا عمر بشمعة فأُوقدت. وجعل عمر يسأله عن حال أهل البلد، وكيف الأسعار وأبناء المهاجرين والأنصار، وأبناء السبيل والفقراء وغيرها من أسئلة حول شؤون المسلمين، فأخبره الرسول بجميع ما عَلِمَ من أمر تلك المنطقة. ولما فرغ عمر من مسألته، بدأ الرسول يسأله. يا أمير المؤمنين: كيف حالُك في نفسك وبَدَنك وكيف عيالك؟ ‏فنفخ عمر الشمعة فأطفأها، وطلب سراجه الشخصي! فعجب الرسول من ذلك وقال: ‏يا أمير المؤمنين، فعلتَ أمراً حيّرني! ‏قال: وما هو؟ قال: إطفاؤك الشمعة عند مسألتي إياك عن حالك؟ ‏فقال عمر: الشمعة التي أطفأتها هي من مال الله ومال المسلمين، وكنت أسألك عن أمرهم وحوائجهم وهي موقدة، فلما صرتَ لشأني وأمر عيالي أطفأتُ نار المسلمين! قد تقول بإن هذا الأمر لا يمكن الاقتداء به في عالم اليوم، ولن أعارضك في رأيك هذا، لأنه بالفعل أمر يكاد يكون مستحيلاً في عالم التطبيق الواقعي في عصرنا الحاضر. نعم، نقول جميعاً هذا لأن الأمانة شبه غائبة عند كثيرين في قطاعات الأعمال والحياة المختلفة، من: رؤساء ومرؤوسين، مديرين وموظفين وغيرهم كثير كثير. ما الذي يمنع وعلى كافة المستويات الإدارية، الاقتداء بعمر بن عبدالعزيز مثلاً في واحدة من جزئيات حياته الإدارية كالقصة التي تحدثنا عنها، رغم حاجة كثير من المجتمعات في كثير من الجغرافيات إلى ضرورة انتهاج بعض ما كان عليه في سبيل الحفاظ على المال العام مثلاً من الهدر والتبذير والسرقات، عبر آلاف الأعذار والمبررات؟ في الواقع أنه لا شيء يمنع هذا الأمر، لكن الذي يمنع أو يصعّب تطبيقه، هو غياب قيمة الأمانة في النفوس بشكل عام، لاسيما إن غابت عن نفس صاحب قرار أياً كان، وأينما يكون.. ولو رتعت لرتعوا، كما قال علي كرم الله وجهه للفاروق رضي الله عنه. سألت امرأة أبا بكر الصديق رضي الله عنه:" ما بقاؤُنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء اللَّهُ به بعد الجاهلية" فقال لها:" بقاؤُكُم عليه ما استقامَت بكم أَئمتُكُم ". وقال في السياق ذاته عمر بن الخطاب - رضي الله عنه:" إنّ الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم، والرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا ". هكذا هو الأمر بكل وضوح.. إذا صلح الرئيس، صلح الوزير، وبالتالي المدير، وهكذا سيكون رئيس القسم ثم الوحدة وصولاً إلى الموظف والعامل وأدنى من ذلك درجة في سلم الهرم الإداري في أي قطاع عمل.. هي حلقات في سلسلة، كل حلقة تمسك بالأخرى. وأي خلل في حلقة ما قد يؤدي إلى قطع السلسلة وما يمكن أن يؤدي بالتالي إلى نتائج وتبعات غير سارة ولا محمودة.. إن استشعار الأمانة حين يتولى المرء مسؤولية ما، والاستعداد لأدائها كما يجب، ليس كلمات تقال أمام صاحب القرار، وإنما أفعال تتجسد على أرض الواقع، وفي الوجدان والضمير أن الله يراقبه قبل أي كائن من كان، وأنه سبحانه من أمر بأداء الأمانات كلها (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها). فالأمانات كما قال سيد قطب – رحمه الله - في ظلال القرآن، تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان؛ والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر الله أن تؤدى.. منها أمانة التعامل مع الناس؛ ورد أماناتهم إليهم: أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأطفال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها... وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال. من هنا، وحين نحث ونذكّر بمطالعة وقراءة سير الأولين، حكاماً وعلماء وساسة وغيرهم، فإنما من باب السعي للحصول على الإلهام والعظة والتجربة والفائدة للإنسان نفسه قبل غيره، وليس من باب الترف الفكري. فهكذا المفترض أن يكون نهج التعامل مع التاريخ ودروسه العديدة العجيبة. [email protected]