29 أكتوبر 2025

تسجيل

اليسار التونسي أمام أسئلة المشاركة في الحكم

05 ديسمبر 2014

احتلت الجبهة الشعبية (التقاء سياسي بين قوى وطنية وديمقراطية تقدمية يسارية وقومية، وهي الفضاء السياسي لالتقاء أبرز القوى اليسارية مع بقية القوى التقدمية المناضلة مثل البعثيين والناصريين التقدميين والاشتراكيين، وهي قوى يمكن تصنيفها على أنها قوى يسارية، ليست بالضرورة ماركسية) المرتبة الرابعة في الانتخابات التشريعية التي جرت بتونس يوم الأحد 26 أكتوبر 2014، بحصولها على 15 مقعداً من أصل 217 مقعداً في البرلمان التونسي، واحتل مرشح الجبهة الشعبية في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم الأحد 23نوفمبر 2014، المرتبة الثالثة، بحصوله على 255529 صوتا أي ما يعادل 7.82%. هاتان النتيجتان اللتان حصلتا عليهما الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية والرئاسية، جعلتا منها الطرف المحدد في مسألة فوز الباجي قائد السبسي في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي ستجري على الأرجح يوم 21ديسمبر الجاري، رغم أن الجبهة لم تصدر موقفا واضحا حتى الآن، وتعتبر أن المرشحين اللذين بقيا في السباق من أجل الوصول إلى قصر قرطاج، وهما الباجي قائد السبسي ومحمد المنصف المرزوقي، لا ينسجمان مع برنامج الجبهة حيث لا هذا ولا ذاك يمثل الجبهة، وبالتالي لا يمكن أن ينال أصوات الجبهة بصورة غير مشروطة، لكن في المقابل كيف ستتعامل الجبهة مع هذا الواقع، وهو ما يبقى رهن الأيام المقبلة. وفي ضوء هذه النتائج الإيجابية التي حققتها الجبهة الشعبية، أصبحت هذه الأخيرة أيضاً بيضة القبان المحددة في تشكيل الحكومة المقبلة من قبل «حزب نداء تونس»، باعتباره الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة، والمؤهل لتشكيل الحكومة عبر تكوين تحالفات سياسية وحزبية تُؤمن له الحصول على 109 نواب، بوصفها الأغلبية النسبية المطلوبة التي تمكنه من إدارة الحكم في تونس. والحال هذه، بات على اليسار التونسي أن يشارك في الحكم لأول مرّة في تاريخه، بدلاً من البقاء مشتتاً ومهمشاً خارج إدارة الدولة طيلة العقود الخمسة الماضية، ويتحمل مسؤولياته في إدارة شؤون الدولة من خلال تسلم حقائب وزارية معينة، حتى في ظل ائتلاف حكومي، يقوده حزب ليبرالي ينتمي إلى يمين الوسط.ومادامت هناك فرصة تاريخية لكي يشارك اليسار التونسي في الحكم، فإن هذا الأمر بات يتطلب من هذا الأخير أن يبلور رؤية سياسية سليمة وواقعية لعملية المشاركة السياسية هذه. وتنطلق هذه الرؤية، من أن تونس تمر في الظروف الراهنة بمرحلة التحول الديمقراطي المرتبك، بعد أن حوّلت الترويكا التي حكمت تونس طيلة السنوات الماضية الثورة التونسية الراديكالية في طلباتها في مجال الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى فوضى واستبداد جديد وإرهاب مستوطن. فعلى مستوى المجلس النيابي، أصبح بإمكان الجبهة الشعبية أن تؤسس كتلة نيابية محترمة، باعتبار أن الحد الأدنى لتأسيس كتلة نيابية وفق قاعدة المجلس التأسيسي السابق هي 10 نواب. كما أن الجبهة الشعبية يمكن أيضاَ أن تستقطب نواباً آخرين إلى كتلتها، لاسيَّما من النواب غير المنتمين إلى أحزاب سياسية، وإن كان هذا يبقى مرهوناً بالتفاعلات التي ستجري داخل المجلس بين النواب المتواجدين في مجلس الشعب. وفيما يتعلق بالمشاركة السياسية في الحكومة المقبلة، فإن الجبهة الشعبية من حقها أن تحسن شروطها التفاوضية مع الباجي قائد السبسي و«حزب نداء تونس»حول تركيبة وشكل الحكومة المقبلة، وبالتالي حول التسوية السياسية المقبلة، نظراً لوجود اختلافات حقيقية حول الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحكم توجهات كل طرف. ولكن في هذا المجال، على الجبهة الشعبية أن تعي مسألة في غاية من الأهمية، ألا وهي أن النظام الديمقراطي الجديد المطلوب بناؤه بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، صعب التصنيف على صعيد المنظومة الفقهية الدستورية، باعتباره نظاماً ازدواجياً، وإن كان مركز الثقل الحقيقي فيه هو بيد الحكومة، ويتمتع البرلمان بسلطات واسعة وشاملة في العديد من القضايا مقابل إعطاء مؤسسة الرئاسة صلاحيات تبدو متوسطة التأثير. وتبدو مشاركة الجبهة الشعبية في الحكومة المقبلة مسألة في غاية من الأهمية، نظرا لأن البلاد التونسية تعاني من عدم الاستقرار السياسي الناجم عن مرحلة التحول الديمقراطي الصعبة، وغياب الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب، فضلاً عن أن الأحزاب السياسية الديمقراطية لا تمتلك تصوراً واضحاً لبناء النظام الديمقراطي البديل. بناء على ذلك فالنظام الديمقراطي الذي يريده الشعب التونسي إقامته بعد أن أنجز ثورته وتم الغدر بها، هو النظام الذي يسمح بمشاركة سياسية واسعة في إطار الميكانيزمات الانتخابية، أي النظام الذي يتضمن توسيع قاعدة المشاركة في عملية صنع القرار السياسي، والذي يتحقق من خلال الانتخابات التنافسية، والاعتراف بمبدأ التداول على السلطة والمشاركة في عملية اتخاذ القرارات. فمفهوم الديمقراطية يتضمن فكرة جوهرية وهي قدرة السياسات العامة على الاستجابة لمطالب الجماهير، وذلك عن طريق هياكل أساسية تقوم بتعبئة المصالح. وعليه فالتحول الديمقراطي هو عملية تهدف إلى إعادة النظر في خارطة القوة على مستوى النظام السياسي، والعمل على إعادة التوازن بين القوى الرسمية المتمثلة في الدولة والمؤسسات غير الرسمية متمثلة في منظمات المجتمع المدني. إن التحول الديمقراطي الحقيقي الذي ينشده الشعب التونسي ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، مرتبط بإقامة نموج جديد للتنمية الاقتصادية غير خاضع لمقتضيات الليبرالية المتوحشة، ويقوم على دعامتين أساسيتين: الدعامة الأولى تتمثل في أن الديمقراطية تعني تنظيم الأفراد في جماعات تنافسية من خلال نظام تعددية حزبية بهدف السيطرة على سلطة الدولة. والدعامة الثانية، إن الديمقراطية شرط أساسي لبناء الدولة الوطنية التي تستطيع مقاومة الضغوط السلبية النابعة من النظام الدولي الجديد الذي تتحكم فيه القوى الدولية الغربية، والمؤسسات المالية المانحة، وكذلك ما يترتب عليها داخليا من آثار وعواقب. ويمكن القول بصفة عامة إن مقولة الديمقراطية تساوي نموذج التنمية الذي أضحى قضية خلافية في الجدل السياسي التونسي، فهناك من يرى الديمقراطية من المنظور الليبرالي، ويدافع عن النموذج الاقتصادي الليبرالي المتوحش، وهو ما سيقود إلى إعادة إنتاج نظام ابن علي، وبالتالي إعادة إنتاج منظومة الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي التي كانت سائدة قبل الثورة، والتي جعلت تونس خاضعة للهيمنة الغربية وتابعة لها. وهناك من يؤكد في تونس على ضرورة تحلل مفهوم الديمقراطية من إطاره الرأسمالي، وانتهاج نموذج جديد للتنمية عبر إعطاء عملية التحول الديمقراطي توجها وطنياً (أي معاد للإمبريالية الغربية) ومضمونا اجتماعياً(أي معاد لليبرالية الرأسمالية المتوحشة ومن يمثلها من منظمة الأعراف والبرجوازية الطفيلية في الداخل).من المؤكد أن فكرة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية على أركان نظام برلماني مهيمن أو مزدوج كما هو الحال في تونس، لا يمكن أن تنجح إلا في بلدان تجذرت فيها الديمقراطية، وتجاوزت مرحلة النشوء والنمو. ولكن في واقع تونس، الديمقراطية لا تزال ناشئة، وفي هذه الحالة يصبح من واجب اليسار التونسي أن يكون مشاركاً في عملية إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية، عبر تركيز أسس نظام ديمقراطي جديد يقوم على التمثيل الواسع للأحزاب الوطنية والديمقراطية ويكرس تداول الحكومات في زمن قصير من أجل تجاوز ديكتاتورية اللون السياسي الواحد- سواء من الأحزاب اليمينية الليبرالية على اختلاف أطيافها، أو من خلال شراكة في الحكم بين «حزب نداء تونس» وحزب «النهضة الإسلامي»- وتوسيع شراكة الشعب في صنع مستقبله السياسي، وإدارة شؤونه العامة. فعملية الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية، التي تم فيها حل أزمة الشرعية والمشاركة والهوية والتنمية، أي انتهاج الديمقراطية كأسلوب لممارسة الأنشطة السياسية، تقتضي تغييرا جذريا لعلاقات السلطة في المجال السياسي وعلاقات الترتيب في الحقل الاجتماعي. وعليه فالتحول الديمقراطي يعني تغييرات عميقة في الأبعاد الأساسية الثلاثة في النظام: البعد الثقافي،البعد الهيكلي، والسياسات، وهذه التغييرات ناتجة عن وجود تناقضات بين هذه الأبعاد الثلاثة، مما يؤدي إلى ضرورة مشاركة اليسار التونسي في الحكم كي يسهم من موقعه في عملية تغيير جذري لجميع مستويات النظام، ويتجاوز مستوى التفتت السياسي بوصفه عاملاً رئيسياً من عوامل عدم الاستقرار السياسي.