12 سبتمبر 2025

تسجيل

هل انتهت ظاهرة المجتمعات الافتراضية؟

05 نوفمبر 2014

لا غرابة في أن يغري التعثر الذي تعاني منه ثورات الربيع العربي التي انطلقت من رحم الواقع الافتراضي، البعض بالقول إن ظاهرة المجتمعات الافتراضية قد رفعت الراية البيضاء أمام أبنية السلطة التقليدية، وإن معركة التغيير قد حسمتها مفاهيم القوة التقليدية الصلبة، على حساب مفاهيم قوة الشبكات الاجتماعية الناعمة.ولكن يبدو هذا الحكم متعجلاً وغير دقيق، متعجلا لأن العالم الافتراضي الذي أنشأته أدوات التواصل الاجتماعي وثورة المعلومات لم يأخذ فرصته كاملة بعد، وقد يكون التعثر الذي يعاني منه تعثرا مرحليا فقط. وغير دقيق، لأنه لم يزعم أحد أن مجرد شيوع قنوات التواصل الاجتماعي في مجتمع ما سيؤدي لنجاح الثورات فيه بالضرورة، غاية ما راهن عليه المتفائلون أن أدوات التواصل الاجتماعي تحمل إمكانات بحدوث تغيرات سياسية واجتماعية واسعة.ويمكن فهم مغزى هذا الرهان من خلال استقراء المثل التاريخي الخاص بالعلاقة بين اختراع الطابعة وانتشار البروتستاتنية، ففي إطار هذه العلاقة لا يكاد يزعم أحد بأن اختراع الطابعة قد أدى مباشرة لنجاح حركة الإصلاح الديني، ولكن يمكن القول إن الإصلاح الديني لم يكن له أن ينتشر بهذا المستوى لولا وجود وسائل معينة من بينها الطابعة التي أتاحت نشر تعليقات واحتجاجات مارتن لوثر وأقرانه على الممارسات التي كانت تقوم بها الكنائس الكاثوليكية في عهدهم، إذن يرتبط الحديث عن العالم الافتراضي بحجم الفرص التي تطرحها الأدوات الجديد، ولا يتعلق الأمر بعلاقة سببية ساذجة بين هذه الأدوات ونجاح الثورات.من ناحية أخرى يمكن القول إن العلاقات الحدية ليست أفضل إطار لفهم العلاقة بين الواقع المادي والواقع الافتراضي، فوجود العالم الافتراضي لا يعني انتهاء أو تهاوي أو تراجع أهمية أبنية السلطة التقليدية، ولكن ما يعنيه هو ظهور مكون هام لا تستطيع هذه الأبنية في ظله أن تستمر في التغافل عن الأصوات المعارضة أو ألا تعتد بوجودها أو بقدرتها على التأثير (كما كان الحال دائما قبل تطوير تقنيات التواصل الاجتماعي)، بعبارة أخرى لم يعد اتجاه التأثير من أعلى لأسفل فقط، من الحاكم إلى المحكوم، وإنما أصبحت ثمة اتجاهات أخرى للتأثير من أسفل إلى أعلى. أما زعم البعض بأن أبنية السلطة التقليدية هي القادرة وحدها على تحقيق الاستقرار والانتظام وأن بديلها هو الفوضى، فهو قول ينبني على تصور جامد للاستقرار، تصور يرادف بينه وبين غياب التغيرات، ولا يلتفت إلى أهمية امتلاك المقدرة على التعافي من هذه التغيرات. وبشكل عام لا يوجد في التنظيمات الهرمية ما يضمن حيازتها لهذه المقدرة، ولتقريب الصورة يمكن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لم تتغلب على تحديات ما بعد 11 سبتمبر من خلال بنية هرمية جامدة، ولكن من خلال الدور الفعال الذي اضطلعت به شبكاتها الإدارية والتنفيذية، بل إن فكرة اتخاذ قرار تشابكي في حالة خلو موقع القيادة كانت هي الأصل الذي استدعى التفكير في اختراع شبكة الإنترنت.بهذا المعنى يصبح افتراض أن تؤدي الشبكية إلى الفوضى افتراضا معكوساً، فالتنظيم الشبكي ظهر إلى الوجود في محاولة لدرء خطر الوقوع في الفوضى، وبخاصة في حالة غياب قمة الهرم التنفيذي والإداري لأي عارض. وقد استمر المجتمع المصري موجوداً، وكذا الدولة المصرية، رغم حالة الانكشاف التي تعرض لها الجهازان التنفيذي والأمني للبلاد خلال ثورة يناير بفضل وجود هذا النوع من الشبكية الاجتماعية (والتي كان جزء منها افتراضيا، وجزء منها ماديا) والتي نجحت في وقت قصير في تطوير مفهوم اللجان الشعبية للحيلولة دون سقوط الدولة والمجتمع في يد عصابات البلطجية والمخربين.ما تفعله المجتمعات الافتراضية إذن لا يتمثل في أنها تنهي الدور المعلوماتي لأجهزة السلطة التقليدية، ولكن في أنها تعمل على إنهاء احتكارها للمعلومات. وبانكسار هذا الاحتكار لم يعد في مكنة هذه الأجهزة التحكم في الرأي العام وتوجيهه بنفس السهولة التي كانت تقوم بها في الماضي. بعبارة أخرى يمكن الزعم أن تكوينات الشبكيات الجديدة لن تحل محل أبنية السلطة التقليدية، ولكنها ستجبرها على أن تغير من سلوكها.إن التعثر المرحلي الذي تعانيه المجتمعات الافتراضية لا يرجع إلى فشلها في المساهمة في التغيير، ولكن يرجع إلى إقبال أجيال ما قبل المعلوماتية على تفضيل أنماط وأجهزة الحكم التقليدية، واعتقادها أن الحكمة فردية تفوق الحكمة الجماعية، كما يرجع إلى قبولها التخلي طواعية عن حرياتها في مقابل وعود بأمن وبرفاه اقتصادي لا يتحقق أبداً، وهذه هي الآفة الحقيقية التي تعوق المجتمعات الشبكية من أن تحدث أثرها.من ناحية أخرى فإن استمرار أجهزة السلطة في محاربة مجتمعات المعلومات الافتراضية، يعني أن هذه المجتمعات تمثل تهديدا مبطنا لقدرة هذه الأجهزة على السيطرة، وأنها تعوق قدرتها على الوصول بمستويات الرقابة والتحكم إلى حدودها القصوى، وأن هذه المجتمعات الافتراضية مازالت توفر للأفراد هامشا من الحرية التي لا تعجب بطبيعة الحال أنظمة الاستبداد.