16 سبتمبر 2025
تسجيلعندما تخرج الشمس من جفن الشرق كل صباح تخرج معها تلك الأنيقة الجميلة مكتسية بحللها الملونة، جامعة رحيق فكر العقول، ونبض ومشاعر القلوب لتقدمه مع كل الحب لقارئ هو دائما معها على ميعاد، اليوم وقد احتفلت الشرق بيوبيلها الفضي أراني التفت إلى مسيرة طويلة قطعتها الشرق منذ ولدت لتنمو، وتكبر، بجهود التجويد، والتطوير، والأفكار، فكل كاتب يضع في مقاله شيئا من ذاته وقد التحم ببيته "الشرق" فصار يهديه أجمل ما فيه. ظروف خاصة منعتني من تلبية دعوة الشرق للاحتفال بربع قرن من العطاء المثمر، فلقاء الزملاء سرور بكل تأكيد، لكن الظروف لا تمنع من إهداء أجمل مشاعر الود، وأطيب أمنيات النجاح لتلك الجميلة التي تشغلنا دوما، وتسعدنا أبداً بطلتها اليومية، لا تدري الأوراق الطالعة يوميا برائحة الخبز الطازج ممهورة باسم "الشرق" أنها بعد هذه العقود وبيوم احتفالها أعادت شريط الذاكرة إلى أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، حيث كتبت ألفا ومائتين وعشرين مقالاً وزيادة، ياه ركض العمر، هل كتبنا كل هذه السنوات، هل التزمنا كل هذه السنوات، هل فاض القلب بخواطره وهمساته وربما أناته كل هذا الوقت؟ نعم كل هذا الوقت! اليوم تركض الذاكرة إلى زمان إلى بعيد لأتأمل حصاد السنين، وأجد بعد قليل تأمل أنه يجب أن أسدي شكراً جزيلاً للشرق العزيزة، فأنا مدينة لها بالكثير، فهي البوابة التي دخلت منها كي يتمرس القلم، ويشتد عوده، لأصدر كتابين (شبابيك) ومجموعة قصصية (ديسمبر الدافئ) وكانت البوابة التي منها دخلت إلى عضوية اتحاد كتاب مصر، وهي البوابة التي منها دلفت إلى الكتابة بأعرق إصدارات مؤسسة الأهرام المصرية حيث (مرافئ) مجلة الشباب الشهيرة، ولها الفضل لأن أكون المراسلة الصحفية لأكثر من شباك أدبي وإصدار بالكويت، تدرب القلم وهمى بمعطيات رجفاته يوما بعد يوم في ظل رعاية (الشرق) وإدارة محترمة لم تفرق يوما بين مواطن ومقيم بين كاتب محلي وكاتب مقيم، حتى أن ذاكرتي لا يمكن أن تنسى قول أحد الرائعين القائمين على رعاية الكلمة (إن أي إبداع يولد على أرض قطر بصرف النظر عن جنسية الكاتب هو إبداع قطري). ثلاثة وعشرون عاماً مضت تعود الآن بكل ما كان فيها لأرد الفضل لأصحابه، شكراً للإدارات المتعاقبة ولكل جهودها الطيبة، شكراً لكتيبة البدايات التي حملت أعباء التأسيس، شكراً للإدارات المختلفة، وللأقسام كلها على جهود نصب عينيها أمل مرتجى أن تكون الشرق هي الأبهى، رحم الله الذين تركوا لمساتهم وسافروا إلى ربهم تاركين فينا شيئا من أنفاسهم المخلصة لتكون الشرق هي الأجمل، شكراً لجل من أحب الشرق بيتا وتكوينا، فمنحها حبا لا يمكن المساومة عليه، ولا التخلي عنه، شكراً جزيلاً للشرق الجميلة التي عرفت من خلال الالتصاق الحميم مع أوراقها معنى الكلمة عندما تصبح ظلا، وفرحا، وريحانة، ومظلة، ووردة، كيف تكون أنة مظلوم سمعها مسؤول فانصفه، أو شكوى مكروب التقطها من يعنيه الأمر ففرج الكرب بنبله الكريم الذي لا يريد حمداً، ولا ثناءً، ولا شكوراً، شكراً للشرق باقة المشاعر المزهرة دوماً، الظليلة أبدا، المتألقة دائماً، الطارحة وداً، وتعاطفا، وتكافلاً، ورحمة، فكم فرجت كروب معوزين، ومكروبين ومرضى، شكراً للشرق رسول المشاعر الضافية، المعقود لها لواء الحب في قلوب من يلمسها فلا يرى لها نظيراً، شكراً للشرق صاحبة رسالة التنوير. * نعم أجمل ما في العمر ورقة تستقطر كل ما في أعصاب الروح من دفقات، وقلم طيع ينقل بيسر كل ما في النبض من كلمات. * من جفن الشرق يتضوع كل يوم ما يكتب من القلب ليصل إلى القلب. * * * رجاءً عاتبوهم! * في مقال الإثنين الفائت نوهت بضياع تسعة أطفال من ذويهم خلال الزحام الشديد في (دريم بارك) نتيجة للإهمال وعدم المتابعة، يوم الجمعة الفائت تكرر الأمر على الكورنيش الذي هو أصعب حالا من الحديقة المغلقة التي يمكن بعد جهد العثور على الأطفال بها هنا أو هناك، على الكورنيش وجدت طفلة ضائعة عمرها سنتان، لا تستطيع الكلام، ولا الإجابة على أي سؤال، من الوشم الموجود على معصمها عرفت أن اسمها (هايا) وأنها قد تكون باكستانية، لحظات وظهرت (مريم) طفلة ضائعة عمرها فوق العام بقليل، لم أجد بُداً من الاتصال بالشرطة، وصلت (الفزعة) ثم تلاها السيد منصور علي العجيدي من المباحث الفيدرالية، أخذ بيانات بطاقتي وسلمته الطفلة التي أسلمها بكاء ثلاث ساعات متتالية للنوم، قبل أن تتحرك سيارة الشرطة ظهر والد (مريم) سألته (إنت أبوها) قال نعم، قلت له أقسم بالله لو أني مسؤول بالشرطة ما سلمتك البنت إلا بعد القصاص منك ومعاقبتك بمحضر وغرامة نظير ألم هذه الطفلة المسكينة، قدر الرجل انفعالي ولم يرد بكلمة، ترك بياناته وانصرف، تحركت السيارة بالطفلة الثانية وأنا أتخيل حال ذويها بعد مرور ثلاث ساعات من فقدها تخيلت الهلع، والخوف، والبكاء، تخيلت الطفلة وقد استيقظت فلم تجد وجها تعرفه لتبكي بكاءها الذي فتتني، عدت إلى بيتي حزينة موجوعة، لم أنتظر حتى اليوم التالي لأطمئن عليها، في الحادية عشرة اتصلت بشرطة العاصمة فأفادني الملازم عبدالله الخاطر بأن الفتاة سُلمت لأهلها، ثم طمأنني الأخ منصور العجيدي بتسليم الطفلة لأهلها، زال كابوس وضيق عكر عليَّ جدا، ولأن الأمر متكرر أرفع رجائي للسادة المسؤولين بالشرطة بضرورة توقيع عقوبة رادعة على من يضيع طفله وإلزامه بغرامة مالية، وإقرار يتعهد فيه بعدم تكرار إهماله، وألا يترك أطفاله في رعاية خدم ينسون أطفالنا إذا ما اجتمعوا بجنسياتهم على الكورنيش ليلقى الأطفال آلاما مبرحة وقد ضاعوا في الزحام، الردع مهم جدا حتى لا تتكرر تلك الصور المؤلمة، ولا أنسى الشكر الجزيل لرجال (الفزعة) والبحث الجنائي لتعاونهم وجهودهم المقدرة لكي يعيدوا الأطفال التائهين إلى ذويهم. * * * طبقات فوق الهمس * رسالة للسادة المسؤولين في (سباير) لمحت مسنة ترفع أقدامها عن الأرض بصعوبة، تئن مع كل خطوة وهي تجاهد للوصول إلى مبتغاها بالحديقة، سمعتها تستأذن سائق عربة الخدمات المتنقلة أن يوصلها إلى حيث توجد أسرتها رفض، رجته، اعتذر، هنا أقترح على السادة المسؤولين أن يوفروا عربات لمثل هؤلاء المسنين بأجر يوضع في صندوق لخدمات الحديقة، بهذا يمكن أن نسعد فئة ولى منها الشباب، وأصبح المشي بالنسبة لها عذاباً مضاعفاً، أليس جميلاً أن نسعد إنساناً؟ * دق الهاتف بعد أذان الفجر بدقائق ضغطت على قلبي بيدي اسكت فوضى اضطرابه، أتحسب مع كل خطوة ناحية الهاتف البعيد لسماع خبر موجع يأتي من الوطن الحزين ليقول إن أحمد (أخاك) هو أول من سيلحق بأبويك، ألف خاطر يهزي، يركض، ألف لقطة لأحمد الذي لم يكن ليستقر في مكان، فهو دائما إما في عربة أو في قطار، دائماً مسافر، الآن حط الطير وقال طبيبه إن حالته سيئة جدا، إذن على الهاتف رسالة ستبلغني أن الطير حط وإلى الأبد، لكن تقدرون فتضحك الأقدار لم يكن على الهاتف ذلك الخبر الفاجع بل كانت صديقتي آمال تقول (إيه رأيك نطلع على الكورنيش نمشي) صرخت فيها (أي كورنيش وقعتي قلبي) لم تعقب أكملت (مش حتندمي أنا جايه) في الطريق لم يكن الظلام قد انقشع تماماً، رحت أتأمل معجزة ولادة النهار، والصبح يتنفس في آية من آيات الله، الشمس غارقة لم تزل في حمرة شروقها، والبحر يهدي الناس فتنة وجمالاً فوق القدرة على الوصف، شيئاً فشيئاً رحت استبين ملامح المكان، فوجئت بناس العيد يملأون الكورنيش، كل الأعمار، كل الجنسيات، عجوز يتوكأ على ذراع زوجته، (ويله حسن الختام) شباب يركضون في همة، سيدات وشابات يشددن الخطوة في تمارين صباحية، نمشي على مهل واتفرس في الوجوه التي أمر عليها، عجوز يتابع تسبيحه في سكينة وهدوء كأن ليس بالمكان كل ذلك الصخب، رفوف حمام تغدو وتروح يرمي لها الصغار حبات تملأ أكفهم الصغيرة فيلتم الحمام ليلتقط الحب فيصرخ الصغار ابتهاجاً، فرادى يتناثرون على طول خط الماء، أحدهم يرمي بخيط سنارته، آملاً في كرم البحر، آخر سرحان لا ترمش عيناه، فيما يفكر؟ في العيون كلام ساكت، ربما يفكر في أطفاله الذين كان يود أن يحتضنهم ليقبلهم واحدا واحدا، من أعوام لم يرهم، أي حنين يجلده وهو يتذكر آخر مرة رآهم فيها؟ وهذا ما له واجما، ربما تعصف به شجون، وعواطف، وأشواق لكل ما تركه خلفه من أزمنة، وأمكنة، ووجوه، ربما يفكر في لمة البيت الكبير وتفاصيل كثيرة ما فرت من الذاكرة؟ وكيف تفر، ولمن تتركه وهي زاد الاغتراب الطويل، وسلوى الحنين! وتلك الخادمة التي تركض خلف الصغار ما بالها لا تبتهج بالعيد، ربما لديها أطفال في عمر من تعتني بهم، سنتان لم ترهم، كم تشتاق لهم؟ أترى قد فطنت مخدومتها لتوفير كارت اتصال لتطمئن على أولادها وأسرتها أم أنساها انشغال العيد وضيوفه؟ نمشي على مهل، واتفرج كيف استيقظت الحياة بكل نضارتها وعنفوانها في صباح عيد ليملأ الناس المساحة الخضراء، بسلامات، ومباركات، وحلوى، وضحكات، ودعوات، وفوقهم نخل مغندر يتمايل، وأزهار إلى جانبهم تشاركهم لحظات الابتهاج. خط الماء، الكورنيش، حكايات، حكايات كثيرة لخليط من البشر، لهم أفراحهم، وأتراحهم، أشواقهم، ودموعهم، قد لا يبوح من اغترب عن أهله ووطنه بحنين يوجعه لعيون الأحبة، والأولاد، والأهل، لكن بسهولة يمكنك تخيل ما لا يقال وقد مررت بشبابيك العيون المفتوحة في صمت وقد عز عليها الابتهاج أو حتى الابتسام.