11 سبتمبر 2025
تسجيلاخترت مقعداً بجانب النافذة وطلبت كوباً من الشاي الساخن، لاستمتع بمشاهدة حياتي وعالمي ممزوجاً بذرات المطر المتناثرة على اللوح الزجاجي، ورحت أتأمل محطاتي الجميلة وقطار العمر يمضي بي مسرعاً مستذكرة محطات تملؤها السعادة وأخرى اكتست بثوب الحزن الشاحب، وحين تلبدت الغيوم تخلصت من نظارتي السوداء ورميتها على الكرسي المجاور وكأنها لا تخصني، ثم اقتربت قليلاً من الزجاج حتى كدت اسند رأسي عليه متأملة لأدقق النظر في كل شيء حدث حولي أو مررت بجانبه، لأميز جماله من قبحه، واسترجع الحكمة التي تسكن زواياه مستكشفة عمق الأثر الذي تركه بداخلي. كم هي سريعةٌ تلك المحطات، لقد خُيل لي أنها ومضات ضوئية غابت بعض تفاصيلها إن لم تكن أغلبها، بالرغم أن بعض المحطات كانت صعبة ومصيرية، لم امتلك قراراتها، وكان واجباً علّي أن أقف في ذلك المعترك وحدي دون عكاز أو دروع بشرية تتلقى عني الضربات ولكنها فقدت جزءا من أهميتها بسبب اتضاح الصورة الكبرى مما عظم من تأثيرها واستنقص أثرها. في حين أن هناك محطات كثيرة أذكر تفاصيلها الدقيقة وأشتم عطرها مبتسمةً وكأني بمنتصف بستان زهور من جمال الأثر وعمق التأثير. ومن أهم المحطات التي تشكل فارقا كبيرا بحياتنا، هي محطات "مفترق الطرق"، من خلالها تنكشف الحقائق وتتغير المسارات، لتغدو بعدها شخصا آخر، فبعد ان كنت متمسكا بهذه المحطة وتقاتل لتطيل البقاء بها، ويعتصر قلبك ألماً عند توديع أفرادها، قاضياً أياما وشهورا معتكفاً تنتظر أن يعودوا لك ملوحين، تكتشف بأن فراقهم هو أجمل ما حدث لك. لذا فجميعنا نقف ونطيل الجلوس في بعض المحطات في حين عبورنا يكون سريعاً بمحطات أخرى، لكونها محطات معنوية "اختيارية" نمر بها مرور عابر السبيل فلا نعي ملامحها ولا نستذكرها، أو نتلقى شيئاً من دروسها، ومنا من يقف فيها باحثاً عن درس واحد فقط ومتجاهلاً كل العبر والدروس المهمة الأخرى، ومنا "الحاذق" الذي يتعمق بها وينتبه لكل العبر ويحللها للاستفادة منها بالمحطات التالية حين نستقبل ركاب جددا ليشاركونا المواقف والمشاعر ثم نودعهم بسلاسة لاستقبال آخرين، وهكذا تمضي الحياة. نعم هناك دروس وعبر نجدها في كل محطة نمر بها وعلينا الانتظار والوقوف أمام "الفوائد" للاستفادة منها بالمحطات التالية، وكذلك التوقف أكثر عند "العواقب" لنتجاوز المشكلات والصعاب في المحطات اللاحقة. إذا فعلينا بالنهاية أن نتعلم من كل هذه التجارب أنه ليست هناك محطة دائمة، فلا لقاء دائم ولا سعادة أبدية ولا حزن مستمر، وبأن بقايا الفرح تبقى بداخلنا وإن داهمنا الحزن، كما أن الأمل لن يفارقنا بعد أن نتذوق حلاوته. وبما أننا مُخيرون ولسنا مُسيرين فيمكننا اختيار المحطة التي نرغب في إطالة الوقوف بها ويمكننا كذلك تجاوز المحطات التي لا تعجبنا أو تناسبنا. وبالرغم من توفر العديد من المحطات الجميلة والسعيدة فإنه للأسف هناك أناس يتوقفون عند محطات مؤذية كالفشل أو الألم ويطيلون البقاء بها متقمصين واقعها وكأنها آخر محطاتهم ونتيجة لذلك ينحرف القطار بهم تماماً عن السكة، وبدلاً من تغيير المسار إلى جهة أخرى، ينحرف تماماً نحو الهاوية. وهكذا تنقضي أيام العمر وهم فيها إما راقصون على "ماض" تليد أو متوجسون من "حاضر" وليد أو حائرون أمام "مستقبل" جديد. خلاصة القول: ضع قطار حياتك على السكة من جديد وتول قيادته وامنعه من الانحراف مجدداً فلا تكتئب ولا تيأس ولا تهرب، بل واجه واصبر واصمد، واعلم أن الدافعية مادة خام لصناعة الهمم وأن الهزيمة مصير مؤقت تلغيه العزيمة، وبأننا نحن من يحدد فترة وقوفنا بتلك المحطات، وتغيير المسار يخضع لسيطرتنا. ببساطة كلما كثرت محطاتك وتجاربك بالحياة سترى تغيرا جذريا لأفكارك، فمحطات الحياة تجعل منا أشخاصاً جدداً لا يشبهون أشخاص الأمس، يرون الحياة والأشخاص بنظرة مختلفة، مستفيدين من الرسائل الكونية التي تصلهم عبر الأشخاص والمواقف والظروف الحياتية، ويترجمونها إلى أفكار وسلوكيات تتناسب مع المحطات التي يصبون إليها. لذا فإن الارتهان للمواقف والمضي في درب الاعتبار والنهل من معين الاقتدار أسس لصناعة النجاة وأصول لقيادة الحياة. فلا تدع قطار حياتك يتوقف على محطة اليأس والألم، احتفظ دوما بتذكرة الأمل، لتطيل البقاء بمحطات السعادة والجمال.