11 سبتمبر 2025

تسجيل

دروس في إدارة الأزمات الاقتصادية من قصة يوسف عليه السلام

05 أكتوبر 2020

قال يوسف عليه السلام"اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" والمقصود بعليم هنا -والله هوأعلم- هوعلم التنبؤ بالمستقبل، التنبؤ الاقتصادي على وجه الخصوص. فيوسف لديه علم بالمستقبل من تفسيره لرؤيا الملك. وقد بحثت في كتب التفسير، ولم أجد تفسيراً صريحاً بهذا المعنى، ولكن ربما يكون أقربها له هو ما أطلق عليه ابن كثير بصفة عامة "ذو علم وبصيرة بما يتولاه"، وقول شيبة بن نعامة عليم بسني الجدب. "فالبصيرة" يمكن التعبيرعنها أيضا "بالرؤية". والعليم هو أقصى درجات العلم، لقوله تعالى، "وفوق كل ذي علم عليم". فمهما بلغ أحد من علم، فدائما هناك من هو أعلم منه. وكل العلوم يمكن اكتسابها إلا علم الغيب فهو من اختصاص الخالق، يطلع منه ما يشاء، لمن يشاء من خلقه. ولم يوجد أحد حينها أعلم من يوسف بما هو آتٍ من سني القحط، ولذلك كان هو"أعلم" من غيره بمدى الحاجة لاتباع سياسات تقشفية في دورة الرواج، فكان هو الأجدر من غيره بتولي المنصب والأقدرعلى تنفيذ هذه السياسات، لعلمه بتبعاتها وعواقب عدم تنفيذها، وهذا كان سبب طلبه للمنصب، ولو تولاه غيره لما استطاع تنفيذ هذه السياسات غير المفهومة ولا المقبولة شعبياً. ويذكر أن الملك قال ليوسف: ومن لي بتدبير هذه الأمور (أي تطبيق هذه السياسات)؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا، ولم يكونوا فيه أمناء؛ فقال يوسف عند ذلك: اجعلني على خزائن الأرض. دورتان اقتصاديتان لقد تنبأ يوسف عليه السلام بدورتين اقتصاديتين، دورة رواج تتبعها دروة ركود، ووضع الخطط المناسبة -من استثمار، وتوفير، وإنفاق - لكل دورة، وإلا لهلك الناس في دورة الركود وحلت بالبلاد كارثة عظيمة، لأنه كان سيحدث توسع في الإنفاق وإسراف في الاستهلاك مع ارتفاع الفوائض، ولن تستغل دورة الرواج بالشكل الأمثل. ومن المؤسف أن هذا هو النمط المتكرر في دول الخليج مع كل دورة رواج وفترة انهيار نفطية، فهناك إسراف وتبذير مع الفوائض النفطية وفشل في استغلالها لتنويع الاقتصادات، وتقشف وعجوزات وضرائب مع الانهيارات، فلماذا؟ وما الذي كان يتوفر ليوسف آنذاك، وتفتقده دول الخليج اليوم؟ السر في المسؤول وليس في المنفذ. فالملك توفرت لديه الإرادة السياسية في الإصلاح، فسعى ليوسف صاحب الاختصاص، للاستعانة بعلمه وكفاءته، فمكنه من حل الأزمة استباقيا، لأن همّ الملك الأول كان هو المصلحة العامة. فسعي الملك لمواجهة الأزمة كان منذ البداية حين قال "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون". ولم يستكنْ بعد حصوله على الفتوى، بل واصل السعي لصاحب الفتوى حتى أوكل إليه الأمر كله، لأنه كان الأكثر كفاءة له من غيره، فأوكل الملك الأمرلأهله. وكذلك يعطينا يوسف درساً في السموعلى صغائرالأمور. فمع سوء معاملتهم له، بسجنه لسنوات في حادثة إفك اللُّبست له ظلما وبهتانا، لم يتردد في إنبائهم بما يعلمه من كارثة مقبلة، بل ورسم لهم خطة متكاملة للنجاة منها بدون طلب منهم، وبدون شروط مسبقة منه عليهم، كإطلاق سراحه مثلا، من محبسه الذي لا زال فيه، و لم يمنعه من ذلك حب انتقام أو حقد، أو طمع في المقابل. فجاء رد الاعتبار له من القمة، فلم يُسلب جهده وحقوقه الفكرية، ولم يتنكروا له أو ينسوه بعد أن قدم لهم وصفته لحل الأزمة وحصلوا منه على ما يريدون، كما يحدث في أيامنا هذه، بل تم الاعتراف التام له بصدقه وعلمه ومكانته من أعلى سلطة في الدولة وهي الملك، الذي عندما تبين له صدق يوسف وعلمه وكفاءته، لم يتركه، بل أنزله المكانة التي يستحقها وتليق به، فقال "ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين" أي يخص به نفسه دون غيره، نظرا للقيمة العالية التي يمثلها يوسف في نظر الملك، والخدمات الجليلة التي يمكن أن يقدمها له. فمكنه الملك، أي أتاح له الأسباب والثقة، فأمنه واستأمنه على تدبيرشؤون مملكته. وأطوال الدورات الاقتصادية هي في الغالب كما هي عليه منذ أيام سيدنا يوسف حتى يومنا هذا. فقد أثبتت الدراسات التي أُجريت على الاقتصاد الأمريكي أن معدل أطوال الدورات الاقتصادية يتراوح بين 5 و10 سنوات. الكفاءة في إدارة الموارد أما المقصود بـ "حفيظ"، فليس النزاهة من الفساد والأمانة فحسب (كما يتصورالبعض)، فهذا مفروغ منه، وإلا لقال إني "أمين" عليم. ولا عدم الإسراف والتبذير والتخبط والعشوائية، التي تكلف الخزينة العامة أكثر مما يجب، ولكن المقصود بها "الكفاءة" في استغلال الموارد، أي إدارتها بأقل تكلفة ممكنة، وهذه تشمل كل المعاني السابقة. والمطلوب الكفاءة في إدارة الموارد الناضبة وغيرالناضبة وعدم الإسراف والتبذير حتى فيما تمنحه السماء بدون مقابل، لأنك لا تعلم ماذا يخبئ لك المستقبل وماذا سيحدث بعد الفوائض؟ فالمياه والموارد التي قد تكون وفيرة اليوم، قد تنضب أو تكسد غداً، فلا بد من التحوط لأسوأ الاحتمالات. وكل درهم تنفقه اليوم له ثمن غداً. فالتبذير والإسراف في الإنفاق، إما أن يؤديا إلى استنزاف الموارد عند الحاجة إليها مستقبلا، أو يرفعان معدلات التضخم، وكلاهما سيء. وعدم الكفاءة في إدارة الموارد لا تعطي أفضل النتائج، ونهايتها الفشل، أما الفساد فيدمر البلاد والعباد. تقشف أثناء الرواج لقد كان يوسف أول اقتصادي نعرفه استخدم سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية، أي تقشف في دورة الرواج، وهي سياسات غير شعبية لأنها غيرمفهومة. لكن كانت لدى يوسف القدرة على الإقناع وتنفيذ هذه السياسات لعلمه بتبعاتها وعواقب عدم تنفيذها، وهذه السياسات يدعو إليها الآن بنك التسويات الدولية، و اقتصاديون مرموقون بعد الأزمة المالية العالمية 2008 لتجنب تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلي أثناء فترات الرواج التي تقود إلى أزمات لاحقا. وكان هناك إفصاح و شفافية في رسم و تنفيذ هذه السياسات، فيوسف شرح لهم ما هي المشكلة والأزمة المقبلة، وكيفية مواجهتها، وهذا يعزز الثقة واليقين ويدفع الجميع نحو التعاون لإنجاح السياسات في تحقيق أهدافها. ويوسف عليه السلام هوأيضا أول اقتصادي نعرفه استخدم سياسات التحوط، بالتخزين والتوفير وتركيم الموارد في أوقات الفوائض لتستخدم في أوقات الانكماش، لإدارة الدورة الاقتصادية بسلاسة والتخفيف من حدة الانكماش، وهي نفس الفكرة التي بنيت عليها الصناديق السيادية لإدارة الدورة النفطية. إدارة الدورة الاقتصادية بدول الخليج في دول الخليج، هناك اعتماد كامل على النفط، وفشل في التنويع، فشل في التنبؤ، ضعف في التحوط، فشل في إدارة الدورة الاقتصادية (النفطية)؛ لا شفافية، لا رقابة، لا محاسبة، لا مسؤولية، بل سياسات ردود أفعال توسعية إسرافية مع الفوائض، وانكماشية تقشفية وضريبية مع الركود مما يطيل ويعمق أمد الركود. فدول مجلس التعاون تستخدم نصف سياسة مالية، سياسة الإنفاق الحكومي في رد فعل موافق للدورة النفطية، أي توسع في الإنفاق مع الرواج وتقشف مع الانكماش، بينما تبقى السياسة النقدية وسياسة سعرالصرف معطلتين بسبب الربط بالدولار، وهذا يضع ضغوطات على الاحتياطيات ويؤجج وضع الدورة الاقتصادية، أي يعمق الانكماش مع الركود، ويرفع التضخم في الرواج. إن ضيق حيّز السياسات بسبب ربط معظم عملات دول مجلس التعاون بالدولار، يضع - من جهة - ضغوطا كبيرة على الاحتياطيات والصناديق السيادية للتعويض عن فشل السياسات في إدارة الدورة النفطية، ومن جهة أخرى يشكل ذلك عبئا إضافيا على الاحتياطيات لتثبيت أسعار الصرف، في حين المطلوب هو مزيج مرن ومعاكس للدورة النفطية من السياسات الثلاث: المالية، والنقدية، وسعرالصرف. فمرونة سعرالصرف تساعد على امتصاص صدمات النفط، وتنويع الاقتصاد، وتحرير السياسة النقدية، بحيث توجه نحو إدارة الدورة الاقتصادية المحلية، بينما يؤدي ربط العملات إلى شل السياسة النقدية وسياسة سعرالصرف، وإبقاء الاحتياطيات عرضة للاستنزاف، والعملات عرضة للمضاربات أثناء الأزمات الاقتصادية والسياسية الحادة. إن السماح لسعر الصرف بالانخفاض والارتفاع مع سعر النفط، يساعد على مواجهة تحديات الإنفاق العام عند انخفاض مداخيل النفط، وخفض معدلات التضخم عند ارتفاعها. فالدول ذات أسعار الصرف الثابتة تواجه تحديات أكبر في الإنفاق العام بسبب انهيار أسعار النفط، فإما أن تخفض الإنفاق، أو تسحب من الاحتياطيات أو تقترض (لتمويل العجوزات)، والتي لا تستطيع أياً من ذلك، فستكون في وضع صعب وستواجه تحديات كبيرة. إن ربط العملات يضع تحديات مضاعفة على دول المجلس، فمن جهة تُستنزف الاحتياطيات للتعويض عن فشل السياسات النقدية وسعرالصرف في مواجهة انهيار أسعار النفط، بسبب الشلل الذي يحدثه الربط، ومن جهة أخرى يتم تحييد جزء كبير من الاحتياطيات جانبا للدفاع عن أسعار الصرف الثابتة. ومستويات الاحتياطيات من الصرف الأجنبي منخفضة في البحرين (على وجه الخصوص) مما يهدد بضغوطات على الدينار البحريني مجددا، وأزمة سعرصرف ربما تطال سلطنة عمان لتشابه الظروف. حينها تكون العدوى قابلة لتطال أعضاء آخرين في منظومة الربط الخليجية بالدولار، كالسعودية مثلا. الصناديق السيادية الخليحية: الأقل شفافية حول العالم إن التطور الوحيد الذي حققته دول المجلس منذ طفرة النفط الأولى في سبعينيات القرن الماضي هو في جانب بناء صناديق التحوط (السيادية)، ولكن هذا لا يكفي، فستتآكل هذه الاحتياطيات في ظل الفشل في التنويع، وفِي إصلاح هيكل إدارة الاقتصاد الكلي، بتبني نظام سعر صرف وسياسة نقدية أكثر مرونة، ويسمح بتوجيههما نحو إدارة الدورة النفطية وتنويع الاقتصاد المحلي. ولا تزال الصناديق السيادية الخليجية بحاجة للكثير من الإصلاح والتطوير. فهي الأقل شفافية حول العالم، إذ لا يعرف ما يدخلها ولا ما يخرج منها، ولا كيف تدار، ولا تخضع لمعايير المحاسبة والمسؤولية، كما أن أحجامها أصغر مما يفترض أن تكون عليه مقارنة بالمداخيل الهائلة التي تحققت لدولها خاصة أثناء الطفرة النفطية الأخيرة. لماذ فشل التنويع الاقتصادي لقد فشِلت دول الخليج في تنويع اقتصاداتها (عبر الطفرات النفطية المتعاقبة) لسببين: الوفرة الاقتصادية (الموارد الطبيعية الهائلة)، والتكلفة السياسية. فالتنويع الاقتصادي قرارسياسي وليس اقتصادياً، وله متطلبات (إصلاحات) اقتصادية وتكلفة سياسية، ولذلك هو بحاجة لإرادة سياسية. وعملية تنويع ناجحة ستقوض نموذج النمو الريعي الخليجي القائم على استقطاع الريع وإعادة توزيعه بما يتسق وتعظيم فرص البقاء في السلطة، وسيشكل ذلك تهديدا للنظام السياسي القائم للدولة الريعية الخليجية. فالتنويع ضد طبيعة الدولة الريعية الأوتوقراطية لأنه يجردها من أهم مقومات بقائها وهي آلية توزيع الريع. ولن تنوع الدولة الريعية إلا مجبرة، أي عند كساد أو نضوب مواردها الطبيعية، أو لتحولات اقتصادية أو سياسية ضاغطة. دورس في الرؤية والقيادة من قصة يوسف إن أول شرط للقيادة وصنع السياسة هو توفر الرؤية. فلابد أن تتوفر لدى صانع السياسة القدرة على تكوين رؤية مستقبلية، واستشراف لما يمكن أن يكون عليه المستقبل، ووضع سيناريوهات بأسوأ الاحتمالات لأزمات مستقبلية والإعداد لها بوضع الحلول المناسبة استباقيا. فهذه هي وظيفة الدولة، وهذا يتطلب كفاءات قيادية وإدارية خلاقة مبدعة تستطيع تكوين رؤى مستقبلية، ورسم وتنفيذ سياسات سليمة بناء عليها. فيجب أن تتوفر فيمن يقومون على الخدمة العامة والقطاع العام، من وزارات ومؤسسات، ووزراء ومسؤولين، القدرة على تكوين رؤى لقطاعاتهم واستشراف لما يكون عليه المستقبل في مجالاتهم، ووضع الخطط المناسبة استباقيا للتحولات والأزمات المقبلة. وهذا يتطلب كفاءات قيادية تستطيع استشراف المستقبل وتصميم السياسات المناسبة، وكفاءات إدارية تستطيع تنفيذها. وقد يجمع صانع السياسة بين الاثنتين كما فعل يوسف، أي بين التصميم والتنفيذ. فالكفاءات القيادية والإدارية تستطيع جذب وتركيم رأس المال البشري، وبناء القدرات والكفاءات الوطنية لأنها بحاجة إليها ولا تخاف منها. ولو خاف الملك من يوسف لما سعى إليه وأخرجه من السجن، و قلده أعلى المناصب، وأنقذ البلاد والعباد، و حافظ على استقرار مملكته. ولتكوين رؤى واستشراف سليم للمستقبل، هناك حاجة لبناء القدرات البحثية على المستوى الوطني، وعلى مستوى المؤسسات والوزارات، والاهتمام بالباحثين والأبحاث والنشر العلمي والمهني، ومراكمة رأس المال البشري المتخصص، ولن يتم ذلك إذا كانت الإدارة ضعيفة وفاقدة للأهلية. هدم رأس المال البشري فالإدارة الضعيفة وغيرالمتمكنة تخاف من الكفاءات وتحاربها، وتعمل على تفريغ المؤسسة والوزارة منها لأنها ترى فيها مصدرمنافسة أوتهديد لمصالحها ولبقائها وبقاء من يرثها في المنصب، وهذا يؤدي إلى هدم رأس المال البشري وإرسال رسائل خاطئة تحرّف النشء عن بناء قدراتهم، وتؤدي إلى تدهور مخرجات القطاع العام وتآكله. وعلى قدر كفاءة الإدارة في أي نظام ودولة، يتحدد سقف رأس المال البشري فيهما. فإدارة كفوءة تعطي سقفا مرتفعا، وإدارة ضعيفة تعطي سقفا منخفضا يحد من تكون رأس المال البشري، ورأس المال البشري هو العنصر الأهم، والتحدي الأصعب في أية عملية تنمية وتنويع اقتصادي. باحث في السياسة النقدية - الاقتصاد السياسي بمركزالاقتصاد الكلي ومعهد الفكر الاقتصادي المستجد بجامعة كمبردج البريطانية [email protected]