19 سبتمبر 2025

تسجيل

حين لم تصمد الحكمة!

05 أكتوبر 2015

بعد أن قام حكيم قريش، عتبة بن ربيعة، وقد أرسله القوم للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأفرغ ما في جعبته من أوراق، عاد إلى القوم وأوجز ما دار في اللقاء التفاوضي قائلاً: سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.. يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا وعلى رأسهم أبوجهل: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.نطق عتبة بالحق والحكمة معاً، ولكن كيف للحكمة أن تجدي نفعاً والأجواء ملبدة بالغيوم، والناس في حراك مستمر، والأوضاع لا تهدأ، بل هي في حركة ونشاط مستمرين عكس ما يتمناه ويرغبه زعماء القوم، الذين لم يعجبهم قول الحق من أحكمهم الذي اختاروه بأنفسهم لمهمة التفاوض مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقطعوا بأنفسهم أي سبيل لهذا الحديث الحكيم أن يستقر في الوجدان، فعابوا على عتبة أنه تأثر بمحمد الذي سحره، وتم غلق المشهد!.استمرت الأوضاع في مكة في التصعيد والغليان.. فمن جهة أولى، زادت مقاومة عتاة القوم للدين الجديد، ومن جهة أخرى يصبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه على الإيذاء الحاصل، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.. ويستمر في الوقت ذاته الجدال عند أهل الحكم أو الحكومة حينها، بين مؤيد للتصعيد ولو تأذى من تأذى من الأهل والأقارب، وبين من يطالب بالتهدئة والتعامل المنطقي الحكيم، وكان من ضمن الفريق الثاني، عتبة بن ربيعة.يأتي يوم بدر ويتكرر مشهد عتبة مع زعماء القوم وقد استنفرهم ابن الحنظلية أو أبوجهل، للخروج لملاقاة المسلمين ومقاتلتهم.. معركة يتواجه الأب مع ابنه والعكس ويتقاتل فيها الأقارب، من بعد تهديد شعروا به من طرف المسلمين تجاه تجارتهم، حتى إذا ما زال التهديد وزال معه سبب الخروج للقتال، قام عتبة مسرعاً وناصحاً القوم بالرجوع حقناً للدماء ليس إلا، فقال: يا قوم، أعصبوها اليوم برأسي - أي اجعلوا عارها متعلقاً بي - وقولوا جَبُن عتبة، وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.. لكن أبا جهل، فرعون هذه الأمة، طمس الله على بصيرته وأخذه الكبر والغطرسة، ورفض اقتراح عتبة، بل اتهمه بالجبن والخوف والرغبة في عدم ملاقاة ابنه أبي حذيفة الذي أسلم، فضاعت الحكمة عند عتبة هاهنا ورضخ للاستفزاز، فتحدى أبا جهل أن يريه من شجاعته غداً في الحرب، فكان ما كان.. حيث قُتل عتبة في مبارزته مع حمزة وانتهى به المطاف إلى القليب أو البئر المهجورة التي دُفن صناديد قريش فيها، فكان عتبة نموذجاً للحكيم الذي لم يثبت على حكمته في أحلك الظروف، فكانت النهاية بائسة، دنيا وآخرة.