12 سبتمبر 2025
تسجيليبدو أن الشقاء الذي يلف العالم العربي ويطوي جناحيه على مدنه وبلداته لا يفكر بالتحليق مغادراً نحو أفق أبعد رغم ما قيل عن إرهاصات الولادة الجديدة لهذا "العالم المنسي" عقب انطلاق ما سمي بشرارة "الربيع العربي" مطلع العام 2011 . عداد القتلى أسرع بكثير من عدادات ارتفاع أسعار السلع والحروقات، وزيادة نسب البطالة ، وتفشي الأمراض والأوبئة. بالأمس قتل ما لا يقل عن 130 شخصاً وما زال المئات في عداد المفقودين من أولئك البائسين الذين كشفوا صدروهم لرياح الأمواج القادمة من بلاد الشمال ، مجدّفين بمشاعرهم الممزقة قوارب الهروب من بلاد الجنوب ، فيبتلع البحر أجسادهم وآمالهم وبراءة أطفالهم. الهجرة غير الشرعية إلى دول الشمال كانت دائماً مطلب المساكين والطامعين بغد أفضل في بلاد الجنوب. هاجر الكثير خلال العقود المنصرمة إلى دول أوروبا ، وقبلها إلى جنوب القارة الأمريكية . علاقة الجنوب بالشمال جسدها الأديب السوداني الطيب الصالح في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال" (عام 1966) التي صنفت أنها واحدة من أفضل مئة رواية في القرن العشرين على مستوى الوطن العربي .. اختصر الصالح فيها جدلية الجذب والطرد بين المكونات الثقافية والاجتماعية والفكرية بين أهل الشمال وأهل الجنوب. لم يعد يرى صاحب العيون الزرقاء في بلاد الشمال اليوم عالماً رومانسياً يسوده السحر الغامض في حين تدفع المآسي المتوالدة من بعضها البعض صاحب اللون الترابي المعجون بسواحل الجنوب وقفارها إلى الإصرار على البحث عن وضع أفضل في بلاد الصقيع والبرودة. لبنان كان يوماً يسمى بـ"سويسرا الشرق" لجمال طبيعته، ورفاهية أهله، وحسن تعلمهم وتعاملهم.. شخصيات كثيرة من أهله هاجرت إلى القارّتين العجوزة والمكتشفة. أبدعوا هناك، وتغنى أحفادهم بهم في لبنان، وبكى يوماً على أطلالهم الأديب اللبناني فؤاد سليمان فكتب يناجي "ردهم يا بحر" .. ذهب الصوت ولم يكن له رجع الصدى.. لبنان اليوم حاله كحال دول البؤس والحرمان، يقذف بأبنائه في لجج البحار البعيدة. لم يعد موسم الهجرة من الجنوب إلى الشمال فحسب، بل أصبح من الجنوب في كل اتجاه.. الساقطون على طريق الهجرات لم يعودوا من نصيب البحر المتوسط أو بحر الروم كما كان يسمى سابقاً، بل بات لبحار إندونيسيا وأستراليا وماليزيا نحو الجنوب من هذا البؤس نصيب. لبنان البلد المنكوب بطغمة سياسية مارست كل أنواع الابتزاز والنهب، وحشدت فقراء الطوائف لتصب بها في أتون حرب المذاهب والأديان دفاعاً عن كرسي لزعيم أو منصب يطمع به نجل زعيم كان له موعد من فصل جديد من فصول المآسي.. مقتل عشرات اللبنانيين في بحار إندونيسيا قبل عدة أيام .. ماتوا على أعتاب القارة الأسترالية قبل أن ينجحوا في الهروب من تناطح تجار الحروب وسماسرة الدم ليجدوا البحر في انتظارهم . ذهبوا بصمت دون أن يخبروا قصتهم. بؤساء هؤلاء، اختصروا بعيون أطفالهم الذابلة قصة شعب تمزقه الصراعات منذ العام 1975.. شعب يتحول فيه أهله إلى لاجئين وسط هجرات لا تنقطع من اللاجئين.. أربعون بالمئة من ساكني لبنان اليوم هم من اللاجئين.. مليون وثلاثمائة ألف من السوريين الفارين من جحيم الموت وما يقرب من نصف مليون لاجئ فلسطيني .. مليون لبناني تحت خط الفقر، وفق إحصاءات رسمية. ورحلة الانزلاق نحو الفقر لا تقف عند محطة في أخاديد البؤس واليأس.. الدراسات التي أجريت مؤخراً والتي أشرفت عليها وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية بينت أن 28 في المئة من اللبنانيين يقعون تحت خط الفقر ، في حين أكدت دراسة أخرى عن تطوّر أحوال المعيشة في لبنان وارتفاع نسب الأسر المحرومة من 43 إلى 52 في المئة وتركزها في منطقة الشمال، وزيادة نسبة الحرمان في الجنوب من 36 إلى 37 في المئة. أما عن البطالة، فوفق التقديرات بلغت 37 في المئة، في حين لا يتوافر لـ 55 في المئة من الذين يعملون أي فائض شهري من مداخيلهم، وأن 63 في المئة يواجهون صعوبات في تأمين النفقات الغذائية والضرورات الأخرى. البؤس لا يتوقف عداده، العام 2012 فقد أكثر من 1083 عاملاً فقدوا وظائفهم وفق آلية الصرف الجماعي، ونحو 665 عاملاً صُرفوا إفرادياً. ولا ندري هل سيتوقف هذا البؤس عند حدّ تتحمله الروح أم أننا سنظل نردد خلف فؤاد سليمان "ردهم يا بحر".