26 أكتوبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); مع بداية القرن العشرين أي بعد أكثر من قرن على اندلاع الثورة الفرنسية نهض في فرنسا مجتمع تحكمه القيم العلمانية، إذ نصت المادة الثانية من الدستور على أن فرنسا "جمهورية علمانية لكنها تحترم كل الأديان" أي أنها تكفل للجميع حرية المعتقد مع ما يترتب على ذلك من آثار ونتائج، ومع أن فرنسا هي الابنة الكبرى للكنيسة الكاثوليكية الأم إلا أن الدين ظل بمنأى عن التدخل في قرارات الدولة ومسارات الحكم، فالدولة كما قال الفيلسوف الإنجليزي جون لوك تقوم على رعاية مصالح مواطنيها في دنياهم والدين يسعى إلى خلاص النفوس في الآخرة، ولذلك جرى فصل المؤسسات الدينية عن الدولة ومنعت الأخيرة من فرض معتقد أو تقليد أو نمط حياة على أي من مواطنيها، لذلك اتسم المجتمع الفرنسي بالتنوع والتعددية الثقافية فلا الدولة تدخلت في الدين ولا الدين تدخل في شؤون الدولة. ما حدث في فرنسا منذ أن أصبح المسلمون كتلة بشرية مهمة في المجتمع الفرنسي قلب الأمور رأسا على عقب، فالدولة هي التي تتدخل في شؤون المواطنين ومعتقداتهم وأنماط حياتهم.. فبعد الحجاب جاء البوركيني إذ قامت 30 بلدية فرنسية بتأييد من رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس بمنع النساء المرتديات للبوركيني من النزول إلى الشواطئ باعتباره رمزا دينيا لا يحترم العلمانية، وبدا حرص هذه البلديات على التعري أكثر من حرصها على الاحتشام، ومع أن المسيحية لا تفرض أنماطا معينة من الألبسة إلا أنها تُلزم المسيحيين بالحشمة.. فقد أشار الكتاب المقدس إلى حشمة الملابس فقال "وكذلك أن النساء يزيِّنَّ ذواتهن بلباس الحشمة مع ورع وتعقل لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لَآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ"، (1تيموثاوس2: 9). وبالرغم من نصوص الاحتشام التي تضمنتها المسيحية إلا أن مسيحيين كثيرين قصروا الاحتشام وتغطية الرأس لدى الدخول إلى دور العبادة، وزعموا أن المهم هو إخلاص القلب لا تعري الجسد فآدم وحواء عليهما السلام كانا عاريين حين كان قلباهما صافيين.. وهم أحرار فيما يفهمونه من دينهم لكن رؤساء هذه البلديات بغض النظر عما إذا كانوا يعلمون شيئا عن وجهة نظر الكتاب المقدس هذه أو لا يعلمون ــ ليسوا أحرارا في فرض رؤيتهم على غيرهم وفي إرغام بعض النساء على خلع ملابسهن لدخول الشواطئ الفرنسية أو منعهن من الدخول.. كما كتبت التقارير الصحفية فهذا مخالف لقيم العلمانية التي يتشدقون بها ومخالف للحريات الأساسية، ومع أن مجلس الدولة الفرنسي قرر تعليق حظر ارتداء البوركيني باعتبار القرار"انتهاكاً خطيراً وغير قانوني للحريات الأساسية"، إلا أن بعض المسؤولين الفرنسيين أصر على مواقفه في مخالفة صريحة لقرار مجلس الدولة وللدستور، وقد ذهب ساركوزي إلى أبعد من ذلك حين دعا إلى فرض حظر شامل في عموم البلاد على البوركيني، وقال "سنعدل الدستور. لقد عدلنا الدستور ثلاثين مرة. ليست ثمة مشكلة". وإذا كان الملبس والحالة هذه عنصرا من بين عناصر كثيرة تمثلها الثقافة فإن رفض المسئولين الفرنسيين للبوركيني ومن قبله الحجاب، يأتي بمثابة رفض للإسلام، لذلك جرى الهجوم على الإسلام نفسه من خلال البوركيني واستغلت القصة لتحميل المسلمين مسؤولية تمزيق الهوية الفرنسية ولذا ادعى رئيس الوزراء الفرنسي "أن البوركيني ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع مبني على استعباد المرأة".وألمح إلى ضرورة "أن تدافع الجمهورية عن نفسها في مواجهة الاستفزازات".المسؤولون الفرنسيون لم يهتموا بقضايا المسلمين ولم ينجحوا في دمج المسلمين ولا في منحهم حقوقهم ولا في فتح المجالات أمامهم للمشاركة السياسية بمدى أوسع وأفق أرحب كما فعلت بريطانيا وعوضا عن مناقشة أسباب ما يقع في بلادهم من إرهاب نسبوا هذا الإرهاب إلى الإسلام والمسلمين ولم ينسبوه إلى المناهج الدراسية التي تهمل أي دور للمسلمين في التاريخ بل وتصورهم كغزاة وقراصنة يبتغون أسلمة أوربا ونهب خيراتها. ما يجري في فرنسا اليوم هو في نهاية المطاف إدانة لبلد النور والثقافة وانقلاب على شعارات الحرية والإخاء والمساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية وإسقاط للتنوع والتعددية وللعلمانية التي قام عليها المجتمع الفرنسي ونص عليها الدستور وعوضا عن الاعتذار للمسلمين واحترام ثقافتهم ودينهم صرح وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف لصحيفة لاكروا الفرنسية "إنه يريد إنشاء مؤسسة تسهم في الترويج لـ "الإسلام الفرنسي" الذي يحترم القيم العلمانية الفرنسية من خلال مشاريع تعليمية وثقافية وتقديم تدريبات غير دينية للأئمة، ودعم البحوث في مجالات العلوم الإسلامية، وتمويل المعارض وكل المشاريع التي لها علاقة بإدماج الإسلام في المجتمع الفرنسي وهو على هذا النحو لا يرأب الصدع بين الدولة الفرنسية والمسلمين بقدر ما يوسع الهوة بينهما لأن أحدا من المسلمين لن يوافقه على اللعب بالإسلام.