18 سبتمبر 2025
تسجيلحين طلب النبي يوسف –عليه السلام– من الملك، أعلى مناصب الدولة يومها، فإنما، إلى جانب كونه نبياً، كان على ثقة ودراية بالمهام التي تنتظره، إن هو تولى منصب رئيس الوزراء، في ظل ظروف كانت تتشكل لتعيشها الدولة خلال سنوات أربع عشرة قادمة. أي أن إستراتيجية ضبط وإدارة موارد واقتصاد البلد كانت واضحة في ذهن يوسف –عليه السلام– حين تقدم وطلب المسؤولية، التي عادة يتهرب منها الأمناء والمخلصون، لأسباب سنأتي عليها لاحقاً، إلا حالة يوسف –عليه السلام- الذي حين طلبها أعطيت له دون أدنى تردد من صاحب القرار يومها وهو الملك. لقد كان النبي يوسف –عليه السلام– كما يقول سيد قطب في ظلاله: "حصيفاً في اختيار اللحظة التي يُستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل، وشعوب كذلك تجاوره، طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غُنماً يطلبه يوسف لنفسه، فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية، لا يقول أحد إنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون". الملك لم يَـرْتَبْ في يوسف –عليه السلام– ولم يشكك في قدراته، أو بحث عن سوابق له في السجلات المدنية وخلافها، بل فكّر وقدّر من بعد أن وجد فيه أهم الصفات المطلوبة في أي مسؤول يُراد منه أن يتولى إدارة مصلحة ما، وهي صفة الأمانة التي رآها عملياً في يوسف الصدّيق. لقد أعجبته تأويلاته لرؤياه أولاً، ومن ثم أعجبته أمانته في قصته مع النسوة ثانياً، وأعجبته أكثر وأكثر خططه لمواجهة كارثة اقتصادية حقيقية قادمة، والتي خاف منها الملك وارتعب وهو يرى أمامه أربع عشرة سنة قادمة لا يدري كيف ستكون. إن مثل تلك الأزمات كما أسلف الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- يهرب منها الجميع لصعوبتها وقسوتها. إذ لا توجد ضمانات كافية للنجاح في إدارتها، وبالتالي ستكون نتائجها وبالاً على من يتولى الأمر، وقد ينتهي به الأمر إلى الإقصاء أو ربما أشد.. فأي مسؤول يطلب الفواجع والكوارث لنفسه؟ غالباً لا أحد، إلا من رحم ربي من الشجعان، وقليل ما هم. هل يمكن تقبّل هذا السلوك في زمننا؟ بشكل عام، صار المتعارف عليه في كثير من الثقافات أن الساعي إلى ولاية أو سلطة، فإنما غالباً يرجو مصلحة من وراء ذلك، أو إدارة ما يمكن الاستفادة منها والتكسب من ورائها مادياً ومعنوياً.. أموال وترقيات، ومناصب، وشهرة، وسمعة. وحتى يحقق هذا الشخص مراده، فإنه سيزكي نفسه بكل الصور الممكنة، سواء عبر تزكيات يطلبها من هذا وذاك، أو عبر وسائل إعلامية تتنوع عبر الزمان والمكان. وبسبب هذا المنطق السائد عند الناس، نجد أن طالب الإمارة أو الرئاسة لا يُلتـفت إليه، بل إن الريبة ستكون حاضرة من فورها عند صاحب القرار وهو يسمع منه مثل هذا الطلب، إلا إن كان صاحب القرار ذا فراسة سليمة وحدس حاد يدعوه إلى الاقتناع بأن هذا الإنسان، وبدلاً من تجاهله، يستحق الانتباه والإنصات إلى ما عنده، ولعل هذا هو ما حدث بين الملك والنبي يوسف عليه السلام. دعونا نتساءل ها هنا.. هل يجوز أن يزكي الإنسان نفسه لتولي مسؤولية ما كما فعل النبي الكريم يوسف –عليه السلام؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما جرى معه من ناحية، وبين ما جرى مع الصحابي الكريم أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- حين سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم– الولاية ولم يحصل عليها؟ بل حصل على توجيه ومكاشفة ونصيحة غالية في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها". أي أن طلبه تم رفضه، وهو الأمين الورع، لكن صاحب القرار في الدولة، بفراسته ومعرفته بالرجال، رفض الأمر. في الحالة الأولى، وافق الملك على طلب يوسف –عليه السلام– وقبل أن يزكي نفسه بشكل مستفيض وقوي للملك، الذي لم يكن يعرفه بعدُ بالشكل الكافي المقنع لتولي أخطر منصب في عهده. أما الحالة الثانية فقد كان الرفض الفوري، رغم أن النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم– على علم كافٍ بأبي ذر وشخصيته وصفاته، فهل يمكن تعميم التوجيه النبوي ذاك على كل الناس في كل زمان ومكان؟ إن ما جاء في الحديث صحيح لا غبار عليه، لكن مع ذلك لا يمكن تعميم ما جاء فيه من توجيه ضمني، على كل الظروف والأشخاص؛ بمعنى أن الإمارة أو طلب المسؤولية هو، فعلاً، خزي وندامة إذا سعى وراءها من هو ضعيف عليها علمياً وإدارياً وقيمياً، هذه نقطة أولى. أما النقطة الثانية، فإنه لا شيء في أن يزكي المرء نفسه عند صاحب القرار، إن كان يرى في وجوده في منصب حكومي، هو لصالح البلاد والعباد. وبالمثل يمكن القول بشأن من يتقدم لترشيح نفسه لعضوية المجالس أو البرلمانات وما شابهها. إذ لا شيء في أن يزكي نفسه للجمهور الناخب، ولكن بشرط أمانته وكفاءته وإخلاصه في مسعاه، وألا يكون ذلك السعي لجلب منفعة شخصية أو وجاهة اجتماعية وغيرها من منافع ضيقة يخطط لها. ولمزيد توضيح.. لا بأس من التقدم للمناصب والوظائف المهمة التي تمس حاجيات وهموم الناس بشكل مباشر، لمن يعتقد جازماً في نفسه أنه أهلٌ للمنصب، تشفع له سيرته الذاتية عند الناس، بالإضافة إلى خبراته، وعلمه، وأمانته، وإخلاصه.. إنه دون شك، ليس عملاً صحيحاً أن كل من تقدم لطلب المسؤولية يُرفض، بل الأصل أن يتم النظر لكل حالة على حدة، وفق آليات معينة. فإذا احترت وأنت صاحب قرار مثلاً في اختيار شخص ما لتولي مسؤولية معينة، فاحرص على جملة معايير لابد أن تتوفر كلها أو معظمها فيه. منها أن يكون تقياً نقياً، أميناً مؤتمناً، كيّساً فطناً، صالحاً مُصلحاً، نظيف اليد عف اللسان، لا يخشى في الله لومة لائم.. تلكم نقطة أولى. النقطة الثانية، نرى أنه من عدم الأمانة، التهرب من المسؤوليات الحساسة وقت الحاجة، لأن هناك الكثير من الأكفاء في أي مجتمع، جديرون بتولي المسؤوليات، لكن تواضعهم ورغبتهم في البعد عن الأضواء والشهرة وكل ما يمكن أن يخدش أمانتهم مستقبلاً، يتوارون عن الأنظار، وفي اعتقادهم أن مثل تلك المسؤوليات خزي وندامة، كما جاء في قصة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. النقطة الثالثة الأهم، تتعلق بدور صاحب القرار ومن معه في الإدارة والمسؤولية، وأهمية البحث المستمر عن الكفاءات والكوادر الأمينة المخلصة في المجتمع، بحيث يتم إسناد المسؤوليات أو الأمانات -إن صح التعبير- إليهم، ومن لم يتم استعماله بعدُ، يتم إدراجه ضمن قائمة المؤهلين لشغل المناصب والمهام الكبيرة مستقبلاً. خلاصة الحديث إن إسناد أي أمر وخاصة العظيمة، سواء على شكل مناصب ومسؤوليات في الحكومة، أو عضوية المجالس والبرلمانات، إلى أشخاص غير أكفياء مؤهلين، بناء على هوى مسؤول ما ومزاجه، أو وساطات من هذا وذاك عند صاحب القرار، أو عبر فزعات قبلية أو ما شابهها في مسائل الانتخابات مثلاً، دون أي اعتبار إلى مسائل الجدارة والتأهيل المناسب والكفاءة، وجملة من الصفات التي ذكرناها آنفاً، إنما هذا هو بالضبط ما نسميه بإضاعة الأمانة، وهي التي دفعت أعرابياً ليسأل عن معناها في قوله -صلى الله عليه وسلم: "فإذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة". [email protected]