25 سبتمبر 2025

تسجيل

هل انتهى اقتصاد الجشع؟

05 أغسطس 2012

يمكن وصف فترة العقدين الأخيرين باقتصاد الجشع. لم تكن هنالك حدود للمضاربات حتى على حساب النمو والاستقرار. أصبح النجاح موازيا للثروة دون النظر بالضرورة إلى مصادرها. الإنسان المعتبر والمحترم هو الذي يحقق أرباحا كبيرة تفوق مرات مستوى معيشته. أصبحت الأسواق المالية إلى حد بعيد كازينو للمغامرة بحيث ابتعد الطلاب عن دراسة القطاعات الاقتصادية الأساسية كالزراعة والصناعة وتوجهوا نحو الحواسب للتبادل المالي وتحقيق الأرباح الكبيرة بثوان وربما ساعات. أرباح الساعات فاقت إلى حد بعيد أرباح سنوات الاستثمار والتعب في الزراعة والصناعة وتجارة السلع العادية، فلماذا يعمل الإنسان ويشقى ويبني إذا كان بالإمكان تحقيق الملايين عبر الحاسوب والإنترنت ومن المنزل؟  لماذا يدرس الطلاب العلوم المرتبطة بالقطاعات الحقيقية؟ لذا ذهب الجميع إلى دراسة ليس العلوم المالية بل تقنيات التبادل المالي التي تعطي الفرصة لتحقيق الأرباح الكبيرة والسريعة. كادت كليات الزراعة والهندسة وبعض كليات التجارة تقفل لأن الطلب على شهاداتها قليل. أصبحت الأراضي الزراعية مكلفة أكثر بسبب صغر المساحات المتبقية لها. كان للانتشار المدني والمضاربات العقارية التأثير الأكبر على الإنتاج الزراعي. لذا ترتفع أسعار السلع الغذائية ليس فقط بسبب النمو السكاني وارتفاع الطلب وتغير الأذواق وإنما أيضا بفضل انحسار العرض نسبيا. شكل الجشع حلقة مفرغة أحدثت فقاعات في الاقتصادات المحلية والدولية، فانتهت بخسارات كبيرة بدأ من سنة 2007 وما زالت مستمرة.  حصل الانفجار الاقتصادي بدءاً من قطاع العقارات إلى الأسواق المالية والقطاعات الحقيقية، فحصل الركود الذي كان من الممكن أن يصبح كسادا لولا تنبه السلطات المالية والنقدية وتعلمهم من تجارب الماضي السوداء وفي مقدمها كساد 1929. ركود اليوم ليس عاديا، بل تحققت الخسائر الكبيرة في جميع الاقتصادات وأن يكون بدرجات وأشكال مختلفة. أمريكا تعثرت وهي غير قادرة على تخفيض بطالتها تحت الـ 8.2% رغم الجهود الكبيرة المبذولة من الإدارة والمصرف المركزي. كي تعود نسبة البطالة إلى ما دون الـ 6% وهي التي يقبلها الأمريكيون ويعتبرونها طبيعية، يجب خلق أكثر من 5 ملايين فرصة عمل جديدة وهذا ما يظهر مستحيلا. بقاء البطالة ما فوق 8% يهدد فرص التجديد للرئيس أوباما كما يبشر بالخسائر لحزبه الديمقراطي في انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب.  الاقتصاد الأوروبي مريض وتظهر أوجاعه في كل دول منطقة اليورو، لكن أشدها في اليونان وإسبانيا. فالسياسات التقشفية المستمرة أفقرت الدول المعنية وأطاحت بالأحزاب الحاكمة وكادت أن تفجر المنطقة لولا التدخلات السريعة للإدارة الألمانية وصندوق النقد الدولي. ما زال الوضع المصرفي الأوروبي من ناحيتي التوازن المالي والتصرف الأخلاقي يهدد صحة منطقة اليورو ويجعلها تتعرض للمخاطر غير المحسوبة كما للخسائر الكبيرة. في ظل هذه التجارب القاسية، يظهر أن الأوروبيين مقتنعون بضرورة تغيير السياسات عبر تنشيط الاقتصادات والإنفاق على البنية التحتية أي على مستقبل الوحدة. فاز فرنسوا هولاند في رئاسة فرنسا ليس فقط بفضله وإنما بفضل نتائج حكم سلفه، فاختاروه للتغيير وأعطوه أكثرية كبيرة في مجلس النواب علما بأن مجلس الشيوخ هو في أيدي الاشتراكيين أيضا. هذه فرصة كبيرة للرئيس الجديد كي يكون عند حسن ظن الفرنسيين الراغبين في الاستقرار والنمو.  ما هي الركائز التي سيبني عليها فرنسوا هولاند سياساته؟ لا شك أن تخفيف البطالة هو الأهم وبدأها بوضع ضرائب على ساعات العمل الإضافية. في حساباته، تخفيض عدد الساعات الإضافية إلى النصف يسمح بخلق 200 ألف وظيفة جديدة. رفع هولاند جزئيا الحد الأدنى للأجور ومن المتوقع أن يرفعه أكثر عندما تتحسن الأوضاع الاقتصادية. سيضع الرئيس نصب أعينه تنشيط الصناعة وما هي نتائج شركة "بيجو" الأخيرة إلا لقلقه حيث قررت الشركة إلغاء ما يفوق 8 آلاف وظيفة. تسعى الحكومة إلى معالجة هذا الواقع ليس فقط عبر إنقاذ العمال أولا وثم الشركة، لكن خاصة عبر وضع سياسات تحفيزية للصناعة الفرنسية التي كغيرها من الصناعات أصيبت في عهود اقتصاد السهولة والجشع. كما أن الغطاء الاجتماعي سيتعزز وهنالك تمويل مناسب سيأتي من ضرائب جديدة على الأرباح والثروات والإيرادات المرتفعة. يهدف الرئيس الفرنسي أيضا إلى العودة إلى نسبة عجز مالي منخفضة أي إلى 3% من الناتج كما نصت عليه اتفاقية ماستريخت أساس الوحدة النقدية.  بين سنتي 2007 و2012، خسر القطاع المالي البريطاني المتواجد خاصة في عاصمة الألعاب الأولمبية حوالي 99 ألف وظيفة بسبب نتائج عصر الجشع. انحدر عدد الموظفين في القطاع المالي في لندن من 354 ألفا في سنة 2007 إلى 255 ألفا في سنة 2012. كما أن العلاوات التي أعطيت في سنة 2011 بلغت 2.3 مليار ليرة إسترلينية وهي 48% أقل من السنة التي سبقتها، وأدنى بكثير من مجموع علاوات سنة 2007 التي بلغت 11.6 مليار ليرة. لم يستطع الاقتصاد البريطاني العودة بعد إلى النمو بسبب السياسات التقشفية المعتمدة كما بسبب ضعف الطلب الاستهلاكي بالإضافة إلى عدم قدرة العرض على التأقلم مع الوضع الدولي الجديد. لا يخفى على أحد أن أهم شركات السيارات البريطانية كجاغوار ولاندروفر أصبحت مملوكة من شركة تاتا الهندية. تنتقل القوة الاقتصادية البريطانية إلى الاقتصادات الناشئة وليس إلى الهند وحدها. تأمل الحكومة البريطانية في أن تسبب الألعاب الأولمبية ارتفاعا في الطلب على كل السلع والخدمات بالإضافة إلى جذب استثمارات جديدة في كل القطاعات. لكن فضيحة تحديد فائدة لايبور لا بد وأن تؤثر سلبا على جاذبية الاستثمارات في بريطانيا لأنها دولة قوانين ومؤسسات وتحتوي على أجهزة رقابة فاعلة ومتخصصة وكفؤة، فكيف تحدث فيها هذه الجرائم غير الأخلاقية؟