27 أكتوبر 2025

تسجيل

لماذا فشل حصار قطر في تحقيق أهدافه

05 يونيو 2018

قطر استثمرت مبكراً في تطوير بنى إنتاجية وتحتية صلبة وقوية الحصار هدف لشن حرب اقتصادية لإضعاف النظام القطري وإسقاطه مطالب دول الحصار شروط لا يضعها إلا منتصر في حرب الحكومة لعبت دورها كمستورد وموزع ومحافظ على الأسعار الحصار جرعة تحصين كانت ضرورية لإكساب الاقتصاد القطري المناعة والقوة دول الحصار غير منتجة فماذا لديها حتى تمنعه عن قطر فتستجيب لمطالبها؟ خلل واضح في حسابات دول الحصار تجلى في الفجوة بين المطالب وأدوات الضغط نزاعات الهيمنة تقضي على أي فرصة لقيام تكتل اقتصادي أو وحدة سياسية في الخليج في الخامس من يونيو/ حزيران 2017 فرضت السعودية والإمارات والبحرين حظرا على حركة الأفراد ونقل وعبور البضائع بينها وبين قطر، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطيران القطري، كما فرضت مصر مقاطعة اقتصادية على قطر. سأتناول في هذا المادة، وهي مقدمة لبحث سينشر قريبا بواسطة مركز الجزيرة للدراسات، أهداف هذه الإجراءات والعوامل التي أدت إلى فشلها وانعكاسات ذلك على الاقتصاد القطري مع محاولة التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية لهذه الازمة. ولا شك أن هذه الإجراءات أخذت بعدا أكبر من المقاطعة. فالمقاطعة التجارية تكون عندما يوقف بلد ما التبادل التجاري (الاستيراد والتصدير) مع بلد آخر، ويتم معه منع حركة الأفراد والبضائع من السعودية وعبرها من دول العالم الأخرى إلى قطر، فهذا نوع من أنواع الحصار. فكون هذه الدول لا تستطيع إغلاق المياه أو الأجواء الدولية، فهذا لا يعني أنها لا تحاصر قطر من كل الجهات الممكنة وبكل ما أوتيت من قوة. بل إن هذه الإجراءات تعدت الحصار إلى حرب اقتصادية تستهدف زعزعة الاستقرار الاقتصادي الاجتماعي والسياسي وتهجير رؤوس الأموال، وما لذلك من تبعات سلبية قد تمس حياة الناس وتكون لها آثار كارثية على مدخراتهم وممتلكاتهم. هدف الحصار والحرب الاقتصادية هو زعزعة استقرار النظام وإسقاطه، وقد أريد بهذا الحصار الضغط على قطر للتسليم لطلبات غير منطقية، تمس بالسيادة والكرامة، ولم يكن متوقعا أن تقبل بها الحكومة القطرية ولا أن يتقبلها الشعب القطري. فهدف الحصار بدا واضحاً وهو الضغط على قطر للتخلي عن السيادة والاستقلالية في قرارها السياسي والخضوع للهيمنة السعودية والإماراتية، والضغط على قطر في سبيل تحقيق ذلك بكل الطرق والوسائل، من حصار اقتصادي إلى حرب دبلوماسية وإعلامية ونسج مؤامرات وتهم لقطر بدعم الإرهاب واستغلال سذاجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمساندة دول الحصار ضد قطر، الى شن حرب اقتصادية تستهدف زعزعة استقرار العملة واستنزاف الاحتياطيات السيادية وتدمير الاقتصاد دفعا نحو زعزعة استقرار النظام في قطر وإضعافه تمهيدا لسقوطه أو إسقاطه. وقد بدا واضحاً أيضاً استحالة الاستجابة لمطالب دول الحصار التي تبدو تعجيزية وتمس بالسيادة والكرامة القطرية، وكأنها شروط لمنتصر في حرب وذكرتنا ببعض الشروط التي فرضها الحلفاء على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وكأنها صممت لترفض لتبرر بعد ذلك لدول الحصار إجراءات تصعيدية وأكثر عدوانية ضد قطر تصل إلى حد شن حرب عسكرية على قطر. خلل في حسابات دول الحصار ولكن في المقابل وعلى أرض الواقع لم تكن أدوات الضغط الاقتصادي المتوفرة لدول الحصار متناسبة مع حجم وقوة طلباتها. فلم يكن هناك تكافؤ بين قوة الطلبات وفاعلية أدوات الضغط، فهناك خلل في الحسابات. فالحصار ليس فقط لم ينجح في تحقيق أهدافه حتى الآن، بل أتى بنتائج عكسية. فعوضا عن أن يضعف الاقتصاد القطري، هو يؤدي إلى تقويته، وإلى اعتماده أكثر على الذات، وعلى التنويع بالضرورة، وتنويع مصادر ووسائط وارداته، وشركائه التجاريين والماليين، واستثماراته الخارجية، مادياً وجغرافياً وجيوسياسيا. فأصبح الاقتصاد اكثر استقلالية، وأقل انكشافا على دول الحصار، والاستقلالية الاقتصادية تعزز من الاستقلالية السياسية، وهذا عكس ما تشتهيه دول الحصار. لقد خسرت دول الحصار أخلاقيا قبل أن تخسر اقتصاديا. إن أفضل ما يوصف به الحصار هو أنه جرعة تحصين كانت ضرورية لإكساب الاقتصاد القطري المناعة والقوة اللازمتين، ومعالجة أوجه القصور والخلل، وهكذا علمتنا تجارب الدول والتاريخ. وهناك عاملان أساسيان أديا إلى فشل حصار قطر في تحقيق أهدافه وهما:  1) عوامل بنيوية في اقتصادات دول مجلس التعاون حدت من انكشاف الاقتصاد القطري على دول الحصار، و2) السياسات الاقتصادية السليمة التي تبنتها قطر: أ) مبكراً قبل الحصار خلال العقدين الماضيين لاستغلال الموارد الطبيعية الضخمة، و(ب) السياسات السليمة المضادة للحصار بعد فرضه. ضعف التركيبة البنيوية لاقتصادات دول المجلس هيأت لفشل الحصار من خصائص اقتصادات دول مجلس التعاون أنها (أ) صغيرة و(ب) منفتحة على العالم الخارجي و(ت) كثيفة الاعتماد على الموارد الهيدروكربونية. وبالتالي يوجد لديك اقتصاد صغير الحجم وثري ولديه موانئ ومطارات مفتوحة على المياه والأجواء الدولية، تمكنه من تصدير موارده الطبيعية إلى العالم الخارجي والحصول على دخله من مصادر خارج الإقليم، وفي المقابل استيراد ما يحتاجه من سلع استهلاكية ورأس مالية من الخارج. وفي المقابل دول المجلس هي أيضاً متخصصة في استخراج مورد واحد (النفط) وتصديره للعالم الخارجي واستيراد في المقابل معظم ما تحتاج إليه من سلع استهلاكية ورأس مالية وعمالة من الخارج. لذلك فهذه الاقتصادات ليست بحاجة إلى بعضها البعض ولا يوجد لديها الكثير مما يمكن أن تتبادله فيما بينها البين، أو تضغط به على قطر من خلال الحصار التجاري او المقاطعة. فهذه الدول غير منتجة صناعيا ولا زراعيا. فهي لاتصدر لقطر الآلات ولا المعدات ولا الأجهزة الطبية ولا الأجهزة الالكترونية ولا الأجهزة الكهربائية. وهي لا تصدر ايضا سلعا أساسية كالقمح أو الأرز أو الشعير أو الذرة، ولا شيء من ذلك. فبماذا تحاصر أو تقاطع قطر؟ إن هذا الحصار فاشل وغير مجد. فقلة تنوع هذه الاقتصادات أدت إلى محدودية التبادل التجاري والتعامل المالي بينها. هذه التركيبة البنيوية لاقتصادات دول المجلس هيئت البيئة المناسبة لفشل الحصار، فظلت التجارة البينية فيما بينها تراوح مكانها عند 10 % من مجموع تبادلها التجاري مع العالم لعقود. وفي المقابل لا يوجد أيضاً لدى هذه الدول الكثير ما يمكن أن تخسره من جراء قطع العلاقات الاقتصادية، فهي لم ترتبط بعلاقات اقتصادية قوية أساساً، ولم تدخل في مشاريع تكامل اقتصادي ولا وحدة نقدية كما في الحالة الأوروبية حتى ترتفع تكلفة المقاطعة وفرض الحصار على قطر، أو ربما ادى الانهيار في هذه المنظومات الى زعزعة الاستقرار الاقتصادي لهذه الدول أوفوضى عارمة تجتاحها. بل لو كانت مثل هذه المنظومات قائمة قبل الحصار، لربما شكلت موانع ضد فرضه. وهناك ثلاثة عوامل، كانت ومازالت، تعزز من بقاء هذه الاوضاع على ماهي عليه وهي: (1) عدم وجود طموح أو هدف سياسي أو استراتيجي تجتمع عليه هذه الدول، كوحدة أو تكتل سياسي أو اقتصادي قوي، ولا يمكن ان يتم ذلك مع نزعة الهيمنة وبسط النفوذ لدى بعض الاعضاء على بعض لان ذلك يقوض الثقة ويعزز التخوف، (2) استمرار الاعتماد الكبير على النفط، و(3) عدم تنوع الاقتصادات. هذه العوامل مكملة بعضها لبعض وتعزز بعضها من بعض. فالعاملان الآخران يلغيان حاجة هذه الاقتصادات الى بعضها البعض، وبالتالي يعززان الاستغناء والاكتفاء بالاوضاع السائدة كما كانت عليه قبل الحصار ناهيك عن بعده، ويعززان الاستقلالية الفردية للدول، ومن ثم يعززان من العامل الاول. وفقدان الطموح والحافز في العامل الاول لا يبرران التكلفة المصاحبة للدخول في مشاريع ومنظومات وحدوية كالتخلي عن السيادية والاستقلالية. السياسات الاقتصادية الكلية السليمة قبل الحصار وبعده. اما العامل الثاني في فشل الحصار، فقد تبنت قطر مجموعة من السياسات الاقصادية السليمة سواء كان ذلك مبكراً خلال العقدين الماضيين، من خلال الاستثمار في تطوير بنى إنتاجية وتحتية واستثمارية صلبة وقوية أتت أكلها الآن وشكلت روافد لدعم استقرار واستمرارية الاقتصاد القطري، أو السياسات السليمة المضادة للحصار وفي الوقت المناسب التي تبنتها قطر منذ اندلاع هذه الأزمة. فبالنسبة للنوع الأول من السياسات فقطر استثمرت في الإنتاج من ثالث أكبر احتياطي للغاز في العالم وفي فترة وجيزة نسبياً أصبحت أكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، وصاحبة أعلى دخل للفرد في العالم وأسرع الاقتصادات نمواً في الشرق الأوسط وربما في العالم، كما استثمرت في بنية تحتية وشبكة اتصالات ومواصلات متطورة وتربطها بالعالم الخارجي وتساعد على تجاوز دول الحصار، كما عملت على تركيم واستثمار عوائد القطاع الهيدروكربوني وتوزيعها جغرافياً وجيوسياسياً ومادياً لتعزيز الاستقرار في أوقات الركود والأزمات ولتنويع مصادر الدخل وحفظ حقوق الأجيال. هذه البنى التحتية تشكل الآن روافد لدعم استقرار وصمود واستمرارية الاقتصاد القطري في وجه الحصار. السياسات الاقتصادية السليمة المضادة للحصار أما السياسات المضادة للحصار فقط اشتملت على تدخل الحكومة بشكل فوري عندما تعطلت آليات الاستيراد في الأسوق في بعض السلع بفعل الحصار ولعبت دورها كمستورد وكموزع وكمحافظ على الأسعار، ونوعت مصادر ووسائط الاستيراد، وفتحت مصادر وخطوط إمداد بديلة (جوية وبحرية)، واستخدمت البنى التحتية ذات الطاقات الاستيعابية العالية من ميناء حمد ومطار حمد لتجاوز دو الحصار والوصول إلى مصادر الاستيراد الأصلية والبديلة لضمان استمرارية تدفق السلع وبأسعار مناسبة للمستهلك. كما عملت الحكومة على توسعة الطاقات التخزينية لأغراض الأمن الغذائي والإمداد اللوجستي بالسلع الأساسية والمواد الأولية (واستخدمت لذلك الغرض المدن اللوجستية والصناعية والاقتصادية)، كما زادت من إنتاج الغاز بنسبة 30 % (وإن كان ذلك مخططاً له من قبل)، إلا أنه في هذه الظروف سيعزز من الاستقرار والاستدامة في القطاعين الحقيقي والمالي، وفي عامل الثقة، وسيعمل على جذب الاستثمارات والتعويض عن الانخفاضات المحتملة في الاحتياطات الأجنبية من جراء دعم الاقتصاد بفعل الحصار، كما تبنت الحكومة سياسات محفزة للمنتج المحلي وداعمه للقطاع الخاص في مجال الإنتاج الحيواني والزراعي والصناعات الخفيفة، وتبنت سياسات لجذب السياحة العالمية، وتنويع الشركاء التجاريين والماليين والاستثمارات الخارجية، وبناء علاقات على مصالح استراتيجية مشتركة مع دول مؤثرة اقتصادياً وسياسياً على الساحة العالمية، كما أنها لا تزال مستمرة في مشاريع البنى التحتية وكأس العالم وتنويع الاقتصاد (وهذا مهم لارسال إشارات ايجابية للمستثمرين)، كما ضخت ودائع وسيولة في النظام المالي للتعويض عن خروج رؤوس أموال وتعزيز استقرار العملة والنظام المالي، كما وظفت الآلة الإعلامية الجبارة لقطر، مع بروز نخبة من الكفاءات الوطنية لتثقيف الجمهور وتعزيز الثقة والدفاع عن قطر في المحافل الإقليمية والدولية، واستخدمت سياسات اقتصادية ودبلوماسية حكيمة ورصينة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية والدبلوماسية على كافة الأصعدة بكفاءة عالية. هذه العوامل مجتمعة أدت الى فشل الحصار والحرب الاقتصادية في تحقيق أهدافهما. فلم ينهار الاقتصاد ولم يسقط النظام. ومع فشل الحصار وفقدانه للتأثير على المدى القصير، هو يتحول إلى حرب اقتصادية دبلوماسية باردة قد تمتد لفترة تطول دول تأثير مهم على الطرفين ودون تنازل أي منهما عن موقفه. ويصعب التنبؤ بكيفية نهاية هذه الأزمة، إن كانت إلى تصعيد، أو تصدع في حلف الحصار مع تلاشي أثره وفقدانه لفاعليته، ولكن يبدو أن السيناريو الأول وهو جمود الأوضاع على ما هي عليه هو الأقرب خلال المستقبل القريب المنظور ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة.