14 سبتمبر 2025
تسجيلعلى مدار الأسبوع الفائت كان الحدث الأقل أهمية هو فوز المشير السيسي في انتخابات الرئاسة المصرية. وتنبع قلة أهمية هذا الحدث من أنه كان معروفا مسبقاً، ومن أن الحبكة السياسية التي صاحبته كانت ضعيفة جدا، لدرجة أنها لم تقنع أحدا بأن هناك منافسة أو سباقا انتخابيا أصلاً.ما يستحق التوقف عنده هو الحملة الإعلامية التي صاحبت عملية التصويت، والتي نصب خلالها إعلاميو مصر "الشرفاء" مأتما كبيرا للبكاء على خلو لجان الانتخاب من المصوتين، وعزوف الشعب المصري عن المشاركة. وتستحق هذه الظاهرة التوقف عندها، لأنها على ما يبدو، لم تكن حملة مهنية خالصة، ولم يكن الغرض منها الاعتراف بالهزيمة أو الإقرار بتدني نسبة التصويت أو التصريح بخيبة الأمل إزاء تدهور شعبية الرئيس المنتظر، وإنما كانت بهدف ترويض الفرعون الجديد، وتذكيره بأن عليه فواتير ينبغي أن يسددها للنخبة التي صنعت منه بطلا شعبيا دون أي إنجازات. البعض من أنصار الشرعية قد ابتهج بهذه الحملة الإعلامية، واعتبرها بمثابة اعتراف من الانقلابيين بفشلهم ونجاح المقاطعة الشعبية للانتخابات، ولكن السؤال هو لم لا يكون الأمر برمته مجرد معركة داخلية بين الحرس القديم مارس خلالها الإعلام هواياته المفضلة وهي التلاعب بمتابعيه، وليس تنويرهم أو نقل الحقيقة لهم، خاصة أن هناك ثمة شواهد كثيرة على هذا التلاعب، منها: - أن إعلام الفضائيات الخاصة لم يكن في أي وقت مضى منبرا لإظهار الحقيقة (لم يعترف بالانقلاب، لم يعترف بمذابح النهضة ورابعة، لم يعترف بأعداد المعتقلين)، وإنما كان طوال الوقت أداة للتدليس على الناس وقصف عقولهم. وعليه لا يمكن تصور أن يكون قد انتابته صحوة ضمير مفاجأة، مارس على إثرها الاعتراف المجاني بهزيمته وتطوع بموجبها لكي يفضح نفسه، ويبين للناس أن المرشح الذي راهن عليه طوال الفترة الماضية، ليس له تلك الشعبية الكاسحة التي كان يؤكد عليها في كل حين.- أن الحملة الإعلامية بدأت مع بداية التصويت، ولم يعط الإعلاميون "الشرفاء" لأنفسهم أي فرصة لقراءة المشهد الانتخابي بأكمله، فمنذ اللحظات الأولى بدأت بكائيات الإعلام ولم تنتظر تطورات عملية التصويت، وكأنها كانت تحاول أن تستبق الواقع أو أن تشارك في صناعته، لا أن تنقله كمعلومة أو حقيقة للناس.- أن حملة النحيب الإعلامي جاءت متزامنة في كل الفضائيات، فكل الإعلاميين تقريبا نطقوا بنفس الرسالة في نفس اللحظة، وكلهم بدأوا حملة التبكيت في وقت واحد، وهذا لا يفسره أبداً عامل الصدفة، كما لا تفسره أي نزاهة مزعومة لهؤلاء الإعلاميين، بقدر ما يفسره أن ثمة اتفاقا ضمنيا بينهم، وأن مصدر الرسالة التي نطقوا بها واحد.- أن الإعلاميين لا تنقصهم القدرة على اختلاق واقع غير موجود، فإزاء ضعف الإقبال الشعبي على التصويت كان في مقدورهم (كما فعلوا ذلك كثيرا في الماضي) أن يركزوا كادر كاميراتهم على أي أعداد قليلة ويملأوا بها شاشاتهم ليظهروا من خلالها "كثافة" الحشود. ويذكر المصريون جيدا كيف فعل الإعلام ذلك في مناسبات عديدة لتصوير معارضي الدكتور مرسي على أنهم أعداد غفيرة. وكانت درة تاج هذا التدليس خلال مظاهرات 30 يونيو، التي ادعى الإعلام من خلال تقنيات التصوير السينمائي أن أعداد من نزلوا فيها بلغت 33 مليون مصري. والسؤال هو لماذا لم يكرر الإعلاميون سيناريو التدليس الذي يجيدونه جيدا ويبرعون فيه في هذه الانتخابات؟- أن البكائية الإعلامية ترافقت مع انهيار غير مسبوق في البورصة المصرية خسرت بموجبه أكثر من 20 مليار جنيه، وقد ذكرت وكالة بلومبيرج المختصة بالأنباء الاقتصادية أن خسائر البورصة المصرية كانت الأكبر عبر العالم. وأكد محللون أن معظم البيع كان من مستثمرين مصريين وليس من الأجانب كما أشاع البعض. وهنا أصبحت الرسالة واضحة جداً، فنخبة المال والأعمال توجه من خلال هذا الانهيار رسالة لا يمكن الخطأ في فهم مدلولها: إما الإذعان وإما تكسير العظام. ولهذا فإن التفسير البديل لما جرى هو أن هذه النخبة قد أقلقتها الإيحاءات التي حملها خطاب السيسي، والتي حاول من خلالها أن يدغدغ أحلام الطبقات الفقيرة، خاصة أنه قد ظهر خلال حملته الانتخابية كما لو كان يحاول السير على خطى الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" والذي صنع شعبيته من خلال الصدام مع رجال الأعمال ونجوم الاحتكار. نخبة المال في مصر أرادت أن توصل رسالة إلى السيسي مفادها أنها كما أوصلته إلى الحكم فإنها تملك أن تطيح به، وأنها إذا كانت أسقطت مرسي بعد عام من وصوله إلى الحكم في أعقاب انتخابات نزيهة، فإنها تملك أن تسقطه قبل أن يبدأ فترة حكمه أصلاً، وعليه فإنه من الأفضل له أن يأخذ شروطها في الحسبان.كما أن من الأمور التي استهدفتها هذه الحملة الإعلامية هو تفريغ فكرة الحشود الجماهيرية من معناها، وإظهار صعوبة الاعتماد عليها في المستقبل، فمحاولة تجاوز النخبة عبر دعوة الجماهير (التي اعتاد السيسي في سياقات سابقة دعوتها للاحتشاد تعبيرا عن مؤازرته) إلى الشارع، لن تجدي نفعا، فحتى لو احتشد أنصاره لتأييده فإن هذه النخبة قادرة على أن تلغي من تأثير احتشادهم، كما أنها قادرة على أن تحول الاحتشاد نفسه إلى عمل سلبي، كما سبق وصورت زورا احتشاد مؤيدي مرسي في النهضة ورابعة على أنه تجمع لخارجين على القانون يهددون الدولة ويحملون السلاح ضد مواطنيها.