18 سبتمبر 2025
تسجيلتحكي الأسطورة القديمة عن شيطان كانت وظيفته أن يتسلل للنساك المعتكفين في الصوامع لصرفهم عن عبادتهم، وكانت الساعة التي يفعل فيها ذلك هي ساعة منتصف النهار لذا أطلق عليه هؤلاء النساك اسم شيطان الظهيرة. كان هذا الشيطان يقبع في انتظار عودة النساك بعد أن يرهقهم العمل في الحرارة الشديدة، منتهزا لحظة الضعف الإنساني فيهم كيما يقتحم قلوبهم ويطلق العنان لوساوسه داخلها، وكانت خطته تتلخص في أن يبث روح السأم والضجر في أنفسهم من مشقة الحياة ومن ضعف المردود الذي يتحصلون عليه من وراء الكد فيها، بحيث تبدو فاقدة للمعنى أو الهدف، وهو ما يدفعهم إلى التساؤل حول أهمية التنسك وجدوى القيم التي نذروا أنفسهم من أجلها ومقارنة أحوالهم بأحوال غيرهم ممن يتنعمون ويسعون وراء الملذات، فإذا تفاقم بهم الأمر بدؤوا في التساؤل حول غاية الوجود وجدواه. فإذا ما وصل النساك إلى هذه الدرجة من التبرم والإحساس بعدم الجدوى، تكون خطة شيطان الظهيرة قد نجحت، ويرحل شاعرا أنه قد أدى عمله بنجاح. وأيا ما تكن حقيقة هذه الأسطورة إلا أن مغزاها يبدو متحققا لدى الكثير من شعوب الربيع العربي بدرجة كبيرة، ففي أعقاب الحماس العارم الذي صاحب انطلاق الثورات، تسرب إلى قلوب الكثيرين إحساس بعدم جدوى ما قاموا به، والبعض منهم يشعر أن المشقة المبذولة في المرحلة الحالية لا تتناسب مع طبيعة الآمال أو الأحلام التي علقوها عليها. وتفصح هذه الحالة عن نفسها من خلال انتشار الاتجاهات والأفكار العدمية خصوصا بين فئة الشباب، وهم القطاع الأساس الذي صنع الثورة، وفي إحساس الكثيرين منهم باليأس من الظروف الحالية، فضلا عن كفر الكثير منهم بفكرة القيادة القادرة على تحريك حماستهم باتجاه عمل إيجابي. وشط البعض منهم إلى حد مقارنة أوضاع ما بعد الثورة بالأوضاع التي كانت سائدة قبلها، متحسرا على غياب ما كان ينعم به في الماضي من امن واستقرار! هذه الظاهرة العجيبة التي تحول بموجبها "عمل الشيطان" إلى روح سارية بين الناس لا يستطيعون — وربما لا يريدون— التخلص منها، ليست مجرد نوع من الوساوس أو الهلاوس التي يمكن الاستراحة بنسبتها إلى شيطان الظهيرة كما في الأسطورة، ولكنها أعراض لأمراض متحققة في أرض الواقع، تحتاج إلى علاج فعال. هذه الأمراض منها ما هو هيكلي مرتبط بتركيبة الدولة الحديثة، ومنها ما هو مرتبط بالطموحات الضخمة التي صاحبت الثورات ولم تجد الفرصة للتحقق حتى يومنا هذا. فالدولة القومية في أحد تعريفاتها هي مشروع يقوم على استبدال القيم الكبرى للأفراد بقيم مادية مباشرة، ووسيلتها لتحقيق ذلك هي تحييد الدين وتأميم مؤسساته وتحويل رجاله إلى موظفين يتقاضون أجورهم منها. هذه التركيبة تتيح لشيطان الظهيرة أن يأخذ وضعا مؤسسيا متميزا، فمن خلال أنظمة ومؤسسات الدولة الحديثة يفقد المرء بالتدريج ثقته برجال الدين وبالمؤسسات الدينية الرسمية، ويتحول إلى الاهتمام بحقوقه المادية التي توفرها له الدولة، فإذا ما تعثر تحصيله لهذه الحقوق لأي سبب انقلب حالة إلى القنوط والتبرم، كتلك التي يعيشها الكثيرون في وقتنا هذا. من ناحية أخرى فإن الدولة الحديثة لا تستخدم خطابا يقدم للناس أي عزاء أخروي، وإنما تراهن فقط على ما تنجزه دنيويا لمواطنيها، فإذا ما أخفقت في الأخيرة لم يعد لدى الأفراد ما يمنون أنفسهم به فينتشر بينهم اليأس، وهذا ربما هو الحال في أنظمة الربيع العربي التي لم تلتزم بما رفعته من ديباجات دينية، وليست في ذات الوقت قادرة —حتى الآن— على تحقيق إنجازات دنيوية ملموسة في حياة المواطنين. وأخيرا فإنه في إطار منظومة الدولة القومية تتراجع الكثير من القيم الدينية، ويصبح التساؤل عنها قدحا في الأولويات اللازمة لتحقيق التنمية ودفع الاقتصاد وتشجيع السياحة إلخ. وعليه يمكن القول إن الدولة القومية على الأقل في نسختها العربية ذات تركيبة تخفض من منسوب الطموح، وتضيق على الدين الخناق حتى يختفي تأثيره. وحتى إذا حاول الدين أن يجاري قيمها فإنه يقع في حالة من التناقض الذاتي، فلا يصبح له نفس البريق عند الناس، وهذا ما تشهده تجربة الحكم في أنظمة الربيع العربي، فرغم صعود التيارات الدينية في معظم هذه الأنظمة إلا أن أداءها المهادن لقيم الدولة القومية يجعلها لا تختلف في أعين كثير من الناس عن أداء الأنظمة السابقة التي لم تكن تخجل من رفع رايات العلمنة على نحو لا مواربة فيه. يؤدي هذا بطبيعة الأحوال إلى اختلاط الأوراق عند الجماهير التي كانت تنتظر شيئا مختلفا من حكم يصف نفسه بالإسلامي. من ناحية أخرى فإن ثورة التوقعات التي صاحبت الثورات العربية تعد مسؤولة أيضا عن حالة اليأس التي يستشعرها الكثيرون، فطموحات ما بعد الثورة لم تتحقق بالمستوى المطلوب، ولا يدري أحد ما نسبة احتمال تحققها في المستقبل، والتحسن في أوضاع الحياة ليس بالوضوح الذي يلحظه الناس. الأمر الذي سهل من مهمة شيطان التبرم في التسرب إلى قلوب الكثيرين ودفعهم إلى التفكير في رفض الواقع بكل تفاصيله والتمرد عليه. لا يمثل ما سبق حصرا بكل الأسباب التي أدت إلى انتشار حالة اليأس لدى الكثير من شباب أنظمة الربيع العربي، فهناك العديد من الأسباب الأخرى، ولكنها تبدو بشكل أو بآخر متفرعة عن مادية مشروع الدولة القومية، وثورة الطموحات المؤجلة. ولكن الخطير أن حالة اليأس العدمية تتحول هذه الأيام إلى حالة ثورية مقدسة، بحيث يتم الترويج لها إعلاميا على أنها البديل الوحيد الذي يتعين على الناس اعتناقه. وكأن الثوري الحقيقي لابد وأن يكون متبرما يائسا متمردا، وهذا في الحقيقة أكثر مما كان شيطان الظهيرة يحلم به، إن كان له وجود حقيقي.