12 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ اللحظة الأولى من عمر الثورة المصرية كان معظم المصريين يدركون أن ثورتهم وإن كانت قد نجحت في إرغام رأس النظام على التخلي عن منصبه فإنها لم تستأصل مراكز القوى بهذا النظام. كان المصريون يدركون أنهم قد ربحوا معركة ولكنهم لم يفوزوا في الحرب. كان الجميع يدرك مدى تغلغل النظام القديم في بنى الدولة، ولم يكن خافيا على أحد أن الفساد قد طال تأثيره كافة مؤسساتها، وأنه لا يوجد مؤسسة يمكن أن تستثنى من ذلك، ولكن لما كان معظم المصريين يريدون أن تنتهي المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر الممكنة فقد قبلوا أن يتغاضوا عن عيوب من تصدى للقيام على إدارة الثورة من رجال ومؤسسات العهد السابق، ورضوا بأن يتولى هؤلاء بالنيابة عنهم عملية تسلم وتسليم السلطة من النظام القديم إلى نظام جديد يأتي بالانتخاب المباشر. كان المصريون يعرفون ويفهمون أن من آلت إليهم أمور الحكم في هذه المرحلة الحرجة لم ينحازوا إلى الثورة حبا فيها، وأنهم لم يقبلوا بها إلا بعد أن صارت واقعا يصعب تجاوزه، ومع هذا قبل المصريون بموازين القوى القائمة معتبرين ذلك بمثابة إجراء استثنائي وقهري فرضه عدم وجود قيادة واضحة للثورة المصرية. صحيح أن بعض الحالمين ربما يكونون قد سقطوا في فخ الأوهام، وتصوروا أن ما تم قبوله بحكم مقتضيات الواقع وموازين القوة هو صفقة رابحة، وأن صحوة ضمير مفاجئة ربما تكون قد انتابت من تخلفوا عن الثورة في بدايتها ثم تعهدوا بحمايتها قرب اكتمالها، إلا أنه فيما عدا هؤلاء الحالمين، كان معظم المصريين يفهمون أن ما يجري على الأرض هو بمثابة صفقة مؤقتة يتظاهر فيه من يقومون على أمر الثورة بانحيازهم لمطالب الجماهير، فيما تتظاهر الجماهير بتصديقها لنوايا القائمين على الثورة. فيما الجميع يدرك أن مكاشفة محتومة ستقع لا محالة بين قاموا بالثورة وبين من اضطرتهم الظروف للقيام بحمايتها، وبين من يريدون إسقاط النظام القديم وبين من كانت كل مشكلتهم معه قضية فرعية (التوريث) فيما لم يكن لديهم اعتراض على ما عدا ذلك من التفاصيل التي ثار من أجلها المصريون. كان كل طرف يتظاهر بالوثوق في الطرف الآخر ويؤجل مكاشفته بحقيقة رأيه فيه على أمل أن تصل الأمور إلى نقطة يقبل بها الجميع وتسوية ترضي جميع الأطراف، واستمرت المرحلة الانتقالية والحال على ذلك، ولكن ما حدث خلال الأيام الماضية على الساحة السياسية أظهر بوضوح أن مرحلة الادعاء قد انتهت وأن مرحلة كشف الأقنعة قد بدأت. فالطبقة الحاكمة تظهر الآن من دون مواربة أنها وإن كانت قد ضحت بمبارك إلا أنها ليست مستعدة لإسقاط نظامه بالكامل، وأنها وإن كانت قد أشرفت على انتخابات برلمانية استحوذ الإسلاميون على الأغلبية فيها إلا أنها ليست مستعدة أن تسلم إليهم مقاليد النظام الجديد عبر بوابة الانتخابات الرئاسية، وأنها إن تكن قد قبلت بمحاكمة رموز العهد البائد إلا أنها ليست مستعدة لأن تطرح جميع حلفاءها في السجون. ووففا لهذه المكاشفة الصادمة فإن الأوضاع تبدو مرشحة خلال المرحلة المقبلة للتفاقم. فالتظاهر بالثقة المتبادلة لم يعد يغني شيئا، وعبارات التطمين والتعهد بحماية الثورة لم يعد لها محل، بعد أن تحركت الأحداث على الأرض ليس فقط باتجاه أوضاع ما قبل الثورة، ولكن أيضا باتجاه استرجاع رموز العهد السابق. فالانتخابات الرئاسية تسير في اتجاه مرشح النظام القديم، والمحاكمات برأت معظم من أدينوا بقتل المتظاهرين، أما الإعلام فمازال قطاع منه مستمر في حفز الناس ضد الثورة ومؤخرا بدأ يلمح أن من قتل المتظاهرين وفتح المعتقلات وهدم السجون ربما يكونون من بين الثوار أنفسهم وليس رجال الشرطة كما أشيع من قبل. من جانبهم فإن قطاعات واسعة من المصريين قد تخلوا بدورهم عن التظاهر بالثقة في القائمين على أمر المرحلة الانتقالية وبخاصة بعد أن تبين لهم أن الاستمرار في إظهار الثقة بهؤلاء لن يؤدي إلا إلى استرجاع النظام القديم في أسوأ صوره. فوفقا لحسابات التكلفة والعائد أصبح المصريون قاب قوسين من فقدان ثورتهم إلى الأبد بفعل تغاضيهم عن كثير من المؤشرات التي كانت تفصح عن النوايا السيئة لدى القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية. هذا التعجل في المكاشفة بين الأطراف المختلفة للثورة المصرية يضع المسمار الأخير في نعش الصفقة الهشة بين رجال الثورة ورجال النظام القديم، ويضع في الوقت نفسه حدا لادعاءات الثقة المتبادلة بين الشعب وبين من قاموا بحكمه في المرحلة الانتقالية، فالمصريون يعرفون الآن أكثر من أي وقت مضى أن البدائل أمامهم تقل، وأن احتمالات فقدانهم ثورتهم تزيد، فيما الطبقة الحاكمة تدرك أيضا أنها إن لم تتحرك بسرعة لتثبيت أقدامها فإنها ربما تفقد مكاسبها التي ترسخت طوال العقود الماضية إلى الأبد. هذه الأجواء من عدم الثقة المتبادلة ترسم ظلالاً من القلق حول المسار الذي ستتحرك فيه الأحداث في الفترة المتبقية من عمر المرحلة الانتقالية، خاصة أن المصريين سوف يذهبون إلى جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية وهم لا يثقون مقدما في نتائجها بعد كل ما رأوه من مفاجآت لم يكونوا يتصورونها أو بالأحرى كانوا يغضون الطرف عن محاولة تصورها، فإذا هي تتحقق أمام أعينهم واقعا لا يحتمل التكذيب.