28 أكتوبر 2025
تسجيلقديماً قال أهل الحكمة، ما لا يُدرك كُله لا يُترك جُلّه، أو بعضه.. وهو قريب من قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) ومن قوله صلى الله عليه وسلم (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم). وهي توجيهات لمن أراد السداد والنجاح في عمله. وما يحدث في عالم السياسة اليوم من توجهات وخطط وأجندات، لا سيما من لهم رؤية واضحة وخطط استراتيجية بعيدة المدى، لا يمكن أن تخرج عن هذا الإطار الذي بدأنا الحديث به. لكن قبل الخوض أكثر في موضوعنا وعلاقة الخليج وإيران بشعرة معاوية، فإن الحديث يحتاج منا التعرف على جزء يسير من سيرة أحد أعظم دهاة العرب أو السياسيين بلغة عصرنا، هو الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه وأرضاه، وما عرفه الناس عنه من الدهاء السياسي أو فن إدارة الجموع والحشود في كافة الظروف لاسيما وقت الأزمات. فمما يروى عنه في حسن إدارة الأزمات والمهمات العظيمة، أن سأله أعرابي عن سر قدرته في إدارة الدولة مدة طويلة، فقال: "إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني. ولو كان بيني وبين الناس شعرة، ما انقطعت. كانوا إذا أمدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها". تلك خلاصة ما نسميه اليوم بفن السياسة ودبلوماسية الحكم.. وأحسبُ أننا جميعاً بحاجة إلى تأمل هذه السياسة، لا سيما في الخليج، من بعد أن عصفت به مشكلات لم تكن سوى نتيجة نزوات وأهواء مراهقة إدارية سياسية، من أناس أبعد أن يفقه أحدهم بعض ملامح الفقه السياسي لمعاوية رضي الله عنه. إن دخلنا إلى صلب الموضوع، نجد أن إيران بكل عظمتها السياسية والدبلوماسية هي أفضل من يتخذ مبدأ معاوية في إدارة شؤون الحكم، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.. قبل أيام كتب وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف مقالاً في موقع الجزيرة، تجد فيه بكل وضوح مبدأ معاوية في السياسية، أو بيان رغبة إيران تجاه دول الخليج العربية في المحافظة على "شعرة معاوية" من أن تنقطع.. مما جاء في مقاله "أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أكدت أكثر من مرة أن يدها دوما ممدودة للجميع للحفاظ على الجيرة والأمن والمصالح، حتى يتحمل الجميع المسؤولية أمام الشعوب، وأمام التاريخ، وأمام أجيال المستقبل. والواقع أنه قد لا يتوفر لاحقاً الحد الأدنى الموجود حالياً الذي يمكن البناء عليه للوصول إلى نهاية لهذا المسلسل الطويل". بغض النظر إن فهم البعض منا رغبة الجارة الكبيرة في التعاون والمحافظة على المشتركات أكثر من المختلفات، على أنها نوع من "التقية" السياسية، باعتبار أفعالها على الأرض في أكثر من موقع، فإن هذا التصريح العلني الواضح، لابد أن يتم احتواؤه والتعامل معه بذكاء وفق منطق "شعرة معاوية"، وعدم الإعراض أو تجاهل هذه الرغبة تماماً، كما أسلفنا منذ البداية بأن ما لا يُدرك كله، لا يُترك جله.. بمعنى آخر، لم لا نتبع الأسلوب نفسه الذي تتبعه إيران في تعاملاتها السياسية الخارجية، فإن بهذا الأسلوب كسبت إيران الكثير، فيما التعنت والإعراض أو الإنصات الكامل لحلفاء الغرب والشرق لم يفد الجانب العربي، لا في الخليج ولا غيره من مناطق العالم العربي.. أمس الأربعاء (4 أبريل 2018) اجتمع رؤساء تركيا وروسيا وإيران لبحث الملف السوري، وأظهر الثلاثة تكاتفهم أمام العالم، سواء تم الاتفاق على المشتركات في سوريا أم بعضها، فإن ما جمعهم أكثر من الملف السوري.. فهذه الدول الثلاث ترى أن التعاون الثلاثي الاستراتيجي بينهم، أمر لا مفر منه أمام التحدي الأمريكي أو التحالف الأوروبي أو التكتلات الآسيوية الأخرى. لاحظ أنه رغم خلافات الثلاث في كثير من المجالات، إلا أن شعرة معاوية بينهم موجودة لا تنقطع، بل لا يحرص أي أحد منهم على قطعها، فلكل خلاف سياسي بينهم حدود معينة لا يجب أن يتسع أو يتم تجاوزه. الخليج، كأبرز مثال على واقع متأزم نشهده اليوم، لا يمنعه مانع من أن يحذو حذو الأتراك أو الإيرانيين أو الروس، والتعاون البيني الاستراتيجي المبني على رؤى واضحة، لا أهواء ولا نزوات ولا مغامرات، مع العمل على وضع حد للتخبطات الحاصلة الآن، والتي بسببها تفككت روابط وعلاقات في غضون شهور قليلة، دون أي اعتبار لمصالح عليا أو استراتيجية.. الاستنزاف الهائل الحاصل للخليج من الشرق والغرب، لا شك أنه على المدى البعيد لا يخدم الجارة الكبيرة، وأن من مصلحتها الاستراتيجية أن تكون هناك مرة أخرى "شعرة معاوية" بين جانبي الخليج، وإن انقطعت في فترة سابقة. ذلك أن الواقع الحالي للمنطقة يدفع، كما أبدت الجارة، أن يكون هناك حرص من الجانبين على الشعرة، فالأمريكي أو الأوروبي مهما أظهر تعاونه ووقوفه معنا، فهو لا يرانا سوى بنوك تحوي خزائنها الكثير من المال، والذكي منهم من يكون الأسرع في استغلال ذلك المال، الذي لا شك فيه أنه بدأ فعلاً وبشكل متسارع رهيب، بحيث أمسينا لا نجد أي مؤشرات على قرب نهاية لهذا الاستغلال الدنيء.. خلاصة الحديث مرة أخرى، أن مبدأ "شعرة معاوية" هو الأصلح لهذا الخليج. فإن إدارة شؤون الدول وعلاقاتها بأخرى، وصولاً إلى إدارة العلاقات بين الأفراد، حيث الأمزجة والأهواء المتنوعة المتقلبة، لا تحتاج إلى ديكتاتوريات بقدر حاجتها إلى من يستوعب ويتفهم معاني "فن الممكن" أو السياسة والدبلوماسية التي تُبقي شعرة معاوية، رغم ضآلتها وضعفها، باقية لا تنقطع إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.