17 سبتمبر 2025
تسجيلحين كان "حزب نداء" تونس في المعارضة لم يطرح على نفسه إنجاز ثورة سياسية، ولم يكن هذا وارداً لديه، لأنه بالأساس لم يكن يمتلك مشروعاً حقيقياً للتغيير في تونس، وبما أنه حزب ليبرالي، لم يكن أيضاً معنيا بإيجاد منوال جديد للتنمية يكون نقيضا للنموذج الاقتصادي التونسي الذي وصل إلى مأزقه المحتوم، الأمر الذي أسهم في تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة، والتفاوت الصارخ بين مختلف مناطق البلاد٬ وتفشي الفساد المؤسساتي. وحين تشكلت الحكومة الجديدة ما بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية بزعامة السيد الحبيب الصيد لم يكن لديها برنامج حقيقي لمحاربة الفساد، وبالتالي لبلورة نموذج جديد للتنمية قادر أن ينقذ تونس من أزمتها البنيوية العميقة.ومن الواضح أن الحكومة الجديدة المتشكلة من أحزاب ليبرالية، والبعض منها يدافع عن الليبرالية المتوحشة كما هو الحل لحزب آفاق تونس، لديها نفس البرامج والتصورات فيما يتعلق بالاقتصاد، أسقطت من برنامجها مسألة مقاومة الفساد كبند من بنود خارطة الطريق للمرحلة المقبلة، لاسيَّما أن رئيس الحكومة السيد الحبيب الصيد تجنب الإشارة من قريب أو من بعيد لمقاومة الفساد في تركيبته الحكومية عندما لم يخصص هيكلا لا في شكل وزارة ولا كتابة دولة ولا حتى مستشارا للاهتمام بملف الفساد.ويعتبر ملف محاربة الفساد ملفاً مفصلياً في نجاح أي حكومة ما بعد الثورة. فالمراقب للوضع السياسي التونسي يلمس بوضوح أن الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الترويكا السابقة بقيادة حركة النهضة، أم في عهد رئيس الحكومة المتخلى مهدي جمعة، لم تبلور خطة حقيقية لمقاومة الفساد، وإقرار الحوكمة الرشيدة، بل إن جميعها همشت ملف الفساد. وحسب تقييم منظمات المجتمع المدني المعنية بمحاربة الفساد، فإن حكومة السيد مهدي جمعة كانت الحكومة الأضعف، وأكثر حكومات ما بعد الثورة فشلا في مكافحة الفساد لاسيَّما أن تونس سجلت في عهد جمعة تراجعا في المؤشر العالمي لمدركات الفساد من المرتبة 75 إلى المرتبة 79 عالميا. الخوف ربما، أو تفادي الإحراج من كل ما له صلة بالفساد تكرر على ما يبدو مع حكومة الصيد حيث تراجع هذا الأخير خطوة أخرى إلى الوراء وحذف كتابة الدولة وكل ما يشير إلى نوايا مكافحة الفساد، فقد تدحرجت تونس في مؤشر الفساد في 2014 لتحتل المترتبة 79 من مجموع 175 دولة في مؤشرات مدركات الفساد بتراجع نقطتين عن ترتيب 2013 وبعشرين نقطة كاملة عن ترتيب 2010 حيث كانت تونس تحتل المرتبة 59 حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية.أما حكومة السيد الحبيب الصيد المتشكلة من الحزبين الكبيرين: "النداء" و"النهضة"، ومن حزبين آخرين صغيرين: "الاتحاد الوطني الحر" و"آفاق تونس"، هذه الأحزاب جميعها لم تطرح في برامجها السياسية مسألة محاربة الفساد كمسألة محورية، وإن كانت أدرجت ملف الفساد ضمن شعاراتها الانتخابية.و الحال هذه أصبحت هذه الحكومة الجديدة منذ تشكلها فاقدة لكل إرادة سياسية لمحاربة الفساد، لأن الأحزاب الموجودة في صلبها تتجنب الإحراج في طرح ملف محاربة الفساد، نظرا لعلاقة الأحزاب السياسية الحاكمة بالمال السياسي وأيضا في علاقة هذه الأحزاب برجال الأعمال لاسيَّما المتورطين منهم في قضايا فساد، وكان ملف رجال الأعمال المتورطين في قضايا الفساد النقطة السوداء في سجل الحكومات المتعاقبة ما بعد الثورة، وهاهي حكومة السيد الحبيب الصيد تلغي تماماً من قاموسها السياسي مسألة محاربة الفساد، الأمر الذي يقودنا إلى أن تونس قد عادت إلى المربع الأول، لجهة اعتبار موضوع محاربة الفساد من المواضيع المحرمة.وكان الفساد استشرى في عهد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وبطانته التي استطاعت أن تحتكر لنفسها مع نهاية 2010 ما نسبته 21 بالمائة من أرباح القطاع الخاص في البلاد. وسمح نظام بن علي خلال فترة حكمه التي استمرت 23 عاما، لعدد من أفراد عائلته وعائلة زوجته وعدد من أصهاره بالتحكم في مفاصل الاقتصاد التونسي ليمكنهم من مراكمة ثروات مشبوهة، تقدر ما بين 5 إلى 10 مليارات دولار، قسم منها مستثمر في الداخل، وقسم آخر في الخارج، لاسيَّما في أوروبا التي باشرت بعض دولها تجميد أرصدة وحسابات تابعة لـ بن علي وزوجته ومقربين منه.وكثيراً ما ينطوي الفساد في تونس على تحويل أو تحريف وجهة الموارد المالية أو الخدمية من الاستفادة العامة إلى العائلات الخاصة النهابة، إذ غالباً ما يتطلب هذا التحريف تحويلاً للأموال إلى مصارف وبنوك أجنبية، ما سبب حدوث تسريبات ضارة بالاقتصاد الوطني تعمل على زيادة عرقلة التنمية الاقتصادية.والفساد في تونس له علاقة بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن سياسة الخصخصة، التي بدأ النظام السابق يطبقها منذ مجيء الرئيس بن علي إلى السلطة، وفي ظل غياب قوانين صارمة ضد الاحتكار تعني الخصخصة استبدال احتكار القطاع العام باحتكار القطاع الخاص، وهذا يؤدي إلى استشراء الفساد بكلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة، هناك حاجة إلى موازاة التخصيص مع وجود قوانين ضد الاحتكار لدرء الفساد، وهذه القوانين كانت علامات أساسية في التطور الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتقدمة. كما أن ممارسات الفساد في تونس ليست مجرد ممارسات فردية خاصة لهذه العائلة أو تلك من العائلات النهابة، كما جاء في حيثيات قضايا الفساد الكبرى، وإنما هي تتحرك من خلال أطر شبكية ومافيات منظمة، وهكذا تكتسب ممارسات الفساد طابعاً مؤسساتياً في إطار تلك المنظومات الشبكية.إن للفساد آثاراً سلبية ومدمرة على الاستثمار الأجنبي والمساعدات الأجنبية، والتنمية الاقتصادية، حيث إن الفساد يعوق التنمية السياسية ويقوض الفعالية والكفاءة الإدارية، وشرعية القادة السياسيين والمؤسسات السياسية، غير أن الفساد ما كان له أن ينتشر في تونس، وينمو ويزدهر، لولا أنه لم يجد بيئة حاضنة للفساد. هذه البيئة الحاضنة للفساد، هي بقاء مؤسسات وشبكات النظام السابق الفاسدة من دون عملية تطهير، الأمر الذي ترك العنان للفساد يستشري في تونس، ولم يمارس أي دور في كبح جماحه، بل إن الحكومة الحالية لجأت إلى تأسيس علاقات وروابط مع رجال "البيزنس" الذين ينتمون إلى حزب بن علي المنحل، لاسيَّما أن "حزب النداء" لديه 50 نائباً كانوا في السابق "تجمعيين". إن السؤال المطروح تونسياً كيف يمكن لحكومة السيد الحبيب الصيد التي تفتقد للبرنامج الحقيقي لمحاربة الفساد، والعاجزة عن إحداث خلايا للحوكمة ومقاومة الفساد في صلب المؤسسات العمومية وإدراج مكافحة الفساد في الهياكل التنظيمية للإدارات وكل مرافق الدولة، أن تقوم بالإصلاحات الكبيرة ذات الطابع الإستراتيجي لبناء اقتصاد وطني منتج قادر أن يحقق نموا حقيقيا، وأن يقضي على جيوب الفقر في المحافظات المحرومة والمهمشة والفقيرة داخل تونس العميقة؟ وكيف يمكن لحكومة السيد الحبيب الصيد أن تنجز هذه الإصلاحات الكبرى المطلوبة في جل القطاعات والمجالات على غرار الديوانة (الجمارك)، والصحة، والطاقة، والمناجم، وجزء كبير من العلات والإخلالات المطروحة تعود أسبابها إلى تفشي الفساد وتغلغله في صلب الهياكل وفي الممارسات، وفي ظل الحصانة الكاملة من معاقبة الفاسدين، وبالتالي في ظل انعدام إستراتيجية وطنية لمحاربة الفساد؟إن مكافحة الفساد تتطلب توافر الإرادة السياسية، ومشاركة المجتمع المدني، وتقوية المؤسسات، فضلاً عن دور التعاون الدولي.