15 سبتمبر 2025
تسجيلفي إطار المشهد السياسي الحالي في مصر لم يعد باستطاعة أي طرف أن يتجمل، فالكل الآن يبرز وجهه الحقيقي. فالمؤسسة التي كان المصريون يعلقون عليها جزءا كبيرا من حلمهم في التغيير، ويثقون في أنها ستعلي قواعد المهنية وتظل بعيدة عن صراعات السياسة، انقلبت على الثورة، وقررت أن تحصل على النصيب الأكبر من الغنيمة، بعد أن صادرت على الحاضر، وتطوعت لاحتكار المستقبل، وفق خارطة طريق لا تسمح بالاختلاف، ولا تتسامح مع المعارضة، ولا تفهم إلا لغة الحلول الأمنية.والمؤسسة التي كان معظم المصريين يخلعون على رجالها صفات الشموخ والاستقلال والحياد، وينظرون إليها على أنها الموئل الأخير، تورطت هي الأخرى في الشأن السياسي، وبالغ الكثير من أعضائها في إظهار ولائهم للنظام الجديد، من خلال التمادي في التنكيل بمعارضي الانقلاب، الذين أصبح مجرد إظهار التعاطف معهم جريمة تستحق العقاب. أما المؤسسة التي ثار المصريون من أجل تطهيرها وردعها عن انتهاك كرامتهم وإنسانيتهم، فقد أصبحت في مأمن من المحاسبة، وفي حل من ممارسة أى تصحيح ذاتي، بل إنها دخلت في تحالف مع قوى البلطجة والخارجين على القانون بعد أن خلعت عليهم وصف "المواطنين الشرفاء"، وأصبحوا هم أداتها الأساسية لمواجهة المظاهرات المعارضة.أما شركاء الثورة الذين تخيل الجميع في البداية أنهم سيعملون من دون كلل لمحاصرة الدولة القمعية، واجتثاث بذور الفساد فيها، إذا بهم يباركون إعادة تمكين مؤسسات القمع، ويشجعونها على التنكيل بمعارضيهم، بعد أن صنفوهم في خانة الإرهاب والعمالة للخارج. والمثقفون من النخبة الذين صدعوا رؤوس الناس بالكلام عن مدنية الدولة، وضرورة اعتزال العسكر للعمل السياسي، قبلوا اليوم الانزواء تحت سارية المدفع، واستظلوا بظل الدبابة، وتنكروا لكل حديثهم القديم عن حكم القانون ودولة المؤسسات، أو حوروا كل ما سبق أن أظهروا اعتناقه من مبادئ وأفكار.وحتى الفريق الذي لحق بالثورة متأخرا، ونال رغم ذلك حضورا كبيرا بفضلها، كان من أوائل من تنصلوا منها، بعد أن استشعر أن ميزان القوى ليس في صالحها، وكما برر اشتراكه المتأخر في الثورة على نحو ديني، فقد برر انسحابه منها كذلك على نحو ديني. أما الجديد في موقفه فهو أنه يشن الآن حربا قاسية على رفقائه في المرجعية، ويصطف في جانب الأطراف التي كانت يوما ما خصوما أيدولوجيين له.وفي إطار الوضع الجديد اختفت مصطلحات الطرف الثالث، والدولة العميقة، والثورة المضادة، وأصبح اللعب على المكشوف، فلم يعد الطرف الثالث الذي يبتغي إجهاض الثورة (أو هو أجهضها بالفعل) خفيا، ولم يعد من يسفك دماء المصريين مجهولا، ولم تعد رموز الدولة العميقة بحاجة إلى التخفي وراء أقنعة الانتصار للثورة وإظهار موالاتها، بل أصبحت مهاجمة الثورة ومن قاموا بها طقسا يوميا يمارسه نجوم الإعلام. وطفت الدولة العميقة على السطح من جديد، وأغرقت الثورة ورموزها إلى القاع أو اقتادتهم إلى غياهب السجون.وفي إطار الوضع الجديد عاد الشعب لكي يلعب دور الكومبارس، ذلك الدور المحجوز له منذ ستين عاما، حيث يستدعى إلى المشهد السياسي وقت الحاجة ليشغل الأجزاء الفارغة من الصورة، فمرة يتم استدعائه لملأ صناديق الاستفتاء، ومرة يستدعى لإعطاء تفويض بالقتل واستخدام القوة المفرطة ضد المعارضين، ومرة يستدعى للرقص والغناء احتفالا بثورة أجهضت، وبعد الفراغ من هذا الدور يعود كما مهملا، أو كتلة صماء لا يعيرها أحد أدنى اهتمام. وفي إطار الوضع الجديد عاد الخارج ليصير أهم من الداخل، وما الإجراءات التجميلية المتكلفة التي تتم داخليا (من استفتاء وانتخابات رئاسية مزمعة) إلا استجابة لما يريد الخارج أن يراه من ديمقراطية شكلية تتيح له الاعتراف بالانقلاب من دون أن يتصادم مع رأيه العام أو يتعارض مع قوانينه التي تمنع التعامل مع أنظمة الانقلاب العسكري. وفي إطار الوضع الجديد صار القمع بلا سقف، فكل الوسائل متاحة لمواجهة المخالفين. وإذا كان نظام عبد الناصر قد دشن استخدام العنف لمواجهة المعارضين، فإن نظام الانقلاب تفوق عليه من خلال زيادة معدل القمع المستخدم، حيث أعلن حربا صريحة علي من يخالفه، والمخالفة هنا ليست المخالفة بالأفعال فقط ولكنها تشمل المخالفة بالأقوال والشعارات والرموز وحتى النوايا التي في الصدور.أما درة تاج الوضع الجديد، فهي عودة أجواء الخوف والإرهاب المعنوي لمحاصرة المعارضين، وذلك عبر إشاعة مناخ من المراقبة والاستهداف. فالمعارض الآن بلا حقوق، ويمكن أن تسحب منه مواطنته وجنسيته. فهو موجود على أرض هذا الوطن لاعتبارات لا علاقة لها بكونه صاحب حقوق فيه أو متمتع بجنسيته، فمعارضه ترتيبات 3 يوليو وما بعدها تجعل المرء مستباحا من كافة الأوجه. وباختصار فإن المرحلة الحالية، والتي يسميها البعض للغرابة بـ"الموجة الثورية الثانية"، ترتبط بعودة مناخ "الأخ الأكبر" أو نموذج الاستبداد الذي عبر عنه جورج أوريل في روايته الشهيرة "1984"، والذي يراقب الجميع بلا انقطاع، ويتدخل في حياتهم كيف ومتى شاء، ويجبر الناس على أن يعيشوا وفق افتراض أن كل صوت يصدر عنهم مسموع وأن كل حركة تند عنهم مرصودة.