19 سبتمبر 2025
تسجيلمعظم المراقبين والذين يكتبون عن الثورات العربية الحاضرة يبدون تخوفا كبيرا من ثلاثة أمور يخشى أن تطرأ على واقع ومستقبل هذه الثورات فتعكر صفوها وتحرف مسارها أو – في أقل تقدير - تقلل الآمال المنوطة بها؛ أول هذه التخوفات هو: الطائفية المذهبية التي انطلقت منذ الثورة الإيرانية واستشرت أكثر وأكثر منذ الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان وهي اليوم تطل علينا بوتائر أعلا بعد فوز الإسلاميين في انتخابات تونس ومصر والمغرب وفلسطين وتركيا وبعد دورهم في الثورات الليبية واليمنية والسورية، وبعد تحولات المواقف الرسمية لصالحهم في دول أخرى باتت تتدارأ من الثورات وتخشى أن تطاولها.. ثاني التخوفات: أن تنشغل الثورات والثوار عن القضية الفلسطينية الكبرى والمركزية بينما يجري العدو الصهيوني جريا في التهويد والاستيطان وتغيير الحقائق وتقرير القوانين وتنفيذ الإجراءات على أرض الواقع التي تبدد الحقوق الوطنية لفلسطينيي الضفة وغزة وتجتاح الحقوق المدنية والسياسية لفلسطينيي الـ48، والتخوف الثالث هو: التدخلات الغربية والأجنبية على هذه الثورات بما ظهر كدعم لها خصوصا في ليبيا، ما قد يؤدي لانقلاب في الاصطفافات والرؤى السياسية لدى شعوبنا في المنطقة.. المقصود هنا أن تسويغا ما بدأ يروج له اليوم تجاه مواقف أمريكا والنظم التي تدور في فلكها "معسكر التسوية" التي صارت تتحدث عن حقوق الشعوب.. وكانت إلى ما قبل الثورات الحالية متهمة لدى الرأي العام الشعبي والنخبوي المؤثر بالعمالة والتهرؤ الوطني والخلقي.. وأقول: أما التخوف من انشغال الثورات عن فلسطين والتخوف من التداخل الأجنبي عليها فهما تخوفان غير جديين أو لنقل إن لدى الثورات العربية بالإجمال حصانة منهما.. وضمانة ذلك هي وعي الشعوب وطبيعة تطور الثورات وكون الشعوب هي محركها وهي المستفيد منها وهي ضميرها وشعوبنا قد تربت على الشوق للاستقلال الحقيقي وعلى رفض الاحتلال الصهيوني.. هذه الضمانة يمكن اعتبارها حقيقية وستمنع حدوث انقلاب كبير أو مؤثر في المفاهيم تجاه الغرب الاستعماري وتجاه العدو الصهيوني تحديدا.. ربما تلهو الشعوب عن القضية الفلسطينية في الفترة الانتقالية وإلى حين تستقر النظم الجديدة وهو ما لن يستغرق إلا شهورا فقط.. ولكن ستبقى الثقافة الوطنية والدينية المتجذرة عبر عشرات السنين والرافضة للاحتلال الصهيوني والتدخلات الغربية وستبقى تدهورات القضية الفلسطينية والثقافة المترتبة على ممارسات الصهاينة وحرقهم المصاحف والمساجد وعلى الاستيطان والتهويد والاعتداءات على غزة والضفة والمسجد الأقصى.. كل ذلك سيبقى سببا للتأجيج وضمانة من هاتين الخشيتين، وستجعلان من المستحيل على الثورات – بعد الاستقرار – أن تلهو عن القضية الفلسطينية أو تغفل عن المقاربات والمرادات الغربية منها. يبقى أن التخوف الأهم والأخطر هو الطائفية والمذهبية السياسية والعقدية لأسباب أهمها ثلاثة؛ الأول: أن لهذه الطائفية جذورا منطقية وحقيقية وتاريخية وواقعا وتفاعلات بارزة أو كامنة، الثاني: لأن لها من يستثمر فيها ويدعو لها في الغرب وفي الشرق بدوافع مختلفة ولكنها تلتقي على حقن الثورات والواقع بهذه الطائفية لتفجيرها عند الاقتضاء، ثالثا: لأن هذه المذهبية تتقمص الثوب الوطني في المواجهات الداخلية، والثوب العقائدي في المواجهات المذهبية والدينية، والثوب الحزبي في المواجهات السياسية.. ما يجعل الطائفيين في كل ميدان سادته وقادته، وما يجعل الطائفية في كل مرة في أعلى السلم وتجد لها من (الجاهلين) الذين قد لا ينقصهم الإخلاص من يعتبرها الصواب المطلق والحق الذي ليس وراءه إلا الباطل ومن لديه الاستعداد أن يكون وقودا في معاركها.. لذلك فإن الطائفية هي التخوف الأكبر وهي التي يجب أن تنصب الجهود والكتابات على تفكيكه.. وأقول: لابد من التنبيه إلى أن الطائفية في بلادنا إنما تضرب أول ما تضرب الدين العام (الإسلام) والانتماء الوطني لشعوبنا واستقلالنا، وأن تأجيج الطائفية كان عادة وتاريخيا مرتبطا بالغزو الخارجي وبتفكيك وحدة الأمة أمامه والتغطية عليه ولفت الانتباه عنه.. وهذا ما يقوله التاريخ للمتتبع المنهجي.. واليوم يكفي أن تكتب في الباحث الإلكتروني - النت – اسم " برنارد لويس " لترى كم ترتبط الطائفية بالمصالح الصهيونية اليهودية تحديدا وكم ترتبط بالتحركات الاستعمارية في بلادنا، ولتكتشف أنها - الطائفية – أكبر من مجرد مناظرة تليفزيونية يغرق فيها مفكران أو شيخان أو عالمان من طائفتين مختلفتين وكل يدعي وصلا بليلى. جدير توضيح أن هذا المستشرق "برنارد لويس" هو يهودي صهيوني وهو كاتب سياسي إستراتيجي.. وأن كتبه ذات انتشار واسع وتأثير كبير في صناعة الرأي وفي القرار المركزي للولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب عامة وتجاه منطقتنا خصوصا، وجدير التوضيح أن مروحة أصدقاء هذا المستشرق الصهيوني ومعتنقي أفكاره تضم أسماء كبيرة مثل الرئيسين بوش الأب وبوش الابن، ونائب الرئيس الأمريكي الأسبق "ديك تشيني"، والرئيس السابق للجنة التخطيط الإستراتيجي في البنتاغون "ريتشارد بيرل"، ونائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق "بول وولفوويتز"، والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية وعضو مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات " جيمس ووزلي " ورئيس دولة العدو "شمعون بيريز".. الخطير أيضا أن الكونغرس الأمريكي وافق على مشروع "لويس" هذا بالإجماع في جلسة سرية عام 1983م، وبعد اعتماده تم تقنينه وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الإستراتيجية المستقبلية لتنفيذه بدقة وإصرار شديدين. بقي أن نوضح أن مشروع "برنارد لويس" الذي له كل هذه الأهمية والرسمية يقوم على تفكيك الوحدة الدستورية لجميع الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية لتصحيح – كما يقول - حدود سايكس بيكو التي يجب أن تكون – وفق مشروعه - متسقة مع المصالح الصهيوأمريكية، ويوضح ذلك بالخرائط التي يبين فيها التجمعات العرقية والمذهبية والدينية في بلادنا وأن على أساسها يجب أن يتم التقسيم. من الخطأ توهم أن الطائفية إذا استشرت وعمت وتنافست في تأجيجها الطوائف والمذاهب في بلادنا ستتضرر منها طائفة صغيرة لصغرها أو تنجو منها طائفة كبيرة لكبرها.. ولكنها ستكون محرقة للجميع ونافذة للتدخل الخارجي ولتدويل مشكلاتنا، وستعود عهود الاستعمار والانتدابات الغربية ربما تحت وطأة البحث عن راع للخروج من المأزق.. كما يحدث الآن في العراق إذ يتوقع أن تتدخل أمريكا للإصلاح بين المالكي والهاشمي وأن تصير هي الملجأ والمنجى من حرب لا تبقي ولا تذر.. وعند ذلك ستصير كل استقلالاتنا في مهب العواصف الغربية والتحكم الصهيوني، وسيكون أول الكاسبين من ذلك بالطبع الكيان الصهيوني في المنطقة أولا بفرقتنا وحروبنا البينية وتفكك وحدتنا ثم ثانيا بصيرورة الكيان اليهودي كيانا طبيعيا (طائفيا) بين كيانات كثيرة سنية وشيعية ودرزية وعلوية وكاثوليكية وأرثوذوكسية.. فإن حدث ذلك واستساغته المنطقة فإن المترتب التالي والتلقائي عليه هو الترانسفير الجديد لتهجير الفلسطينيين من فلسطين التاريخية وإقامة (إسرائيل الكبرى) التي وضع "برنارد لويس" لها خريطة تمتد من الفرات إلى النيل ومنهما إلى المدينة المنورة وتجمع معظم العراق وسوريا ومصر وكل لبنان والأردن وفلسطين. وإذن فعلى كل الوطنيين والإسلاميين الذين يفترض أنهم (أم الولد) – كما يقال - أن يخافوا من التأجيج الطائفي والتفعيل المذهبي، وألا ينجرّوا إلى مواجهات على الأساس الطائفي، وألا يكونوا سنا في ترس الآخرين، وأن يحرص كل منهم في خاصة نفسه وجهته وقبيله وطائفته على المبادرة لنزع فتيل الطائفية وإخراج نفسه من أتونها قبل أن يطالب غيره بذلك مهما بدا له أنه على الحق، وعلى كل أحد من المتفاعلين طائفيا أن يسأل نفسه سؤالا واحدا: إذا كان عمر الطوائف في الافتراق والخلاف مئات السنين، وإذا كانت الطوائف منذ ذاك ترتب لنفسها عقائد وعادات وأفكارا ونظما اجتماعية وفكرية وسياسية؛ فهل يمكن ردها عن كل ذلك بمناقشة نزقة ومحاججة زاعقة أو بالتخويف أو بالصراع بين عشية وضحاها؟ آخر القول: ليس هذا زمن التفعيل الطائفي ولا وقت استفزاز وتثوير الآخر – المذهبي أو الديني - ولكنه وقت الحرص على إنجازات الشعوب وثوراتها المجيدة، وزمن التدليل على الوعي الشمولي لحدود وفواصل الاتفاق والاختلاف بين المذاهب والطوائف، وزمن ترتيب سلم الأولويات وزمن البحث عن الجوامع المشتركة بين كل المخلصين من كل الطوائف.. وقد آن أن ننظر أبعد من "قدام" أنوفنا.. وبقي أن نقول: وعلى الإسلاميين خاصة المسؤولية الأكبر في محاربة هذه الطائفية.. لماذا وكيف؟ هذا ما سنتعرف عليه في الأسبوع المقبل بحول الله.