14 سبتمبر 2025

تسجيل

الجري وراء سراب الدولة الفلسطينية

04 ديسمبر 2017

يبدو أن أكثر الفلسطينيين حماساً لمشروع التسوية السلمية على أساس حل الدولتين بات يدرك -بعد نحو ربع قرن على اتفاق أوسلو- أن الأمر صار في مهب الريح. وأن مشروع التسوية -بالشكل الذي تمّ به- لم يكن أكثر من فخٍّ أو مصيدة حوَّلت الخط السائد في منظمة التحرير الفلسطينية من بيئتها الثورية المفترضة إلى منظومة مصالح، تدير كياناً وظيفياً اسمه "السلطة الفلسطينية"، على أمل الوصول "يوماً ما" إلى حُلُم الدولة الفلسطينية. في الوقت نفسه، كان الاحتلال الإسرائيلي يُثبّت أركانه بالضفة الغربية في ورشة أشغال تصل الليل بالنهار لتهويد الأرض والإنسان، ولبناء حقائق على الأرض تلغي عملياً وتدمر كافة الأسس الضرورية لإنشاء دولة فلسطينية. لقد آن الأوان للمعنيين بالمشروع الوطني الفلسطيني -وخصوصاً من يتبنون مسار التسوية- أن يقفوا وقفة مراجعة حقيقية للحالة الكارثية التي وصلت إليها الحالة الفلسطينية، وأن يسحبوا الغطاء على الأقل عن عملية "استغفالهم" أو استخدامهم غطاءً لاستمرار الاحتلال وإضاعة ما تبقى من فلسطين. الجري وراء "الجزرة" المسماة "دولة فلسطينية" لم يتوقف منذ عقود طويلة. فمن حق الفلسطينيين أن تكون لهم دولتهم واستقلالهم وسيادتهم على أرضهم، ولكن المشكلة تلَخَصَّت في أن الأطراف التي كانت تَعِدُ الفلسطينيين بذلك أو تُلوِّح لهم به، كانت تشترط عليهم "الهدوء والسكينة" واللجوء إلى "الوسائل السلمية". بعد حرب أكتوبر 1973، وفي ضوء بيئة عربية أكثر ميلاً لمسار التسوية السلمية، وأكثر انكفاءً على أوضاعها القُطرية؛ تبنى المجلس الوطني الفلسطيني في يونيو 1974 برنامج النقاط العشر، الذي فتح المجال لأول مرة للتحرك السياسي الفلسطيني باعتباره إحدى أدوات "التحرير"، كما فتح الباب لإمكانية تجزئة ومرحلة تحرير فلسطين. وهو ما هيأ المجال للقيادة الفلسطينية للانتقال إلى مشروع الدولتين، بالتناغم مع مسار النظام الرسمي العربي. وخلال أشهر حصدت القيادة الفلسطينية اعتراف الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وحصلت على عضوية مراقب في الأمم المتحدة. ومع تزايد الضغوط على منظمة التحرير وفصائل المقاومة على مدى سنوات، وخسارتها لنفوذها وقواعدها المسلحة في بلدان الطوق، ومع محاولات إضعافها وتهميشها؛ وجدت المنظمة في الانتفاضة المباركة -التي اندلعت في 9 ديسمبر 1987- رافعة سياسية، حيث عادت قضية فلسطين لتتصدر المشهد، ولتفرض نفسها فرضاً على الأجندات العربية والعالمية. وقد أرادت المنظمة أن تكون طرفاً مقبولاً أمريكياً وإسرائيلياً للحوار معه للدخول في مسار التسوية السلمية. وبناء على نصائح عربية ومن الاتحاد السوفياتي تمّ وضع برنامج وطني فلسطيني جديد في المجلس الوطني التاسع عشر في 12-15 نوفمبر 1988، حيث اعترفت المنظمة لأول مرة بقرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين، وبقرار مجلس الأمن 242 الذي يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين. وبغض النظر عن الشكل الاحتفالي الذي تمّت به تغطية التنازل، وذلك بإعلان "استقلال فلسطين"؛ فإن جوهر البرنامج كان مجرد اقتراب فلسطيني من مربع الشروط الأمريكية/الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن قبول القيادة الفلسطينية بدولة منقوصة الأرض (نحو 23% من أرض فلسطين)، فتح المجال للدخول في مفاوضات أدت إلى القبول بحكم ذاتي منقوص السيادة على جزء محدود من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ من خلال ما عُرف باتفاق أوسلو (عام 1993). جاء اتفاق أوسلو في ظل بيئة عربية بائسة متشرذمة ناتجة عن حرب الخليج الثانية، حيث قاد الأميركان تحالفاً عربياً دولياً لمواجهة الاجتياح العراقي للكويت (1990 - 1991). وفي ظلّ تراجع عربي عن دعم منظمة التحرير، وفي بيئة دولية شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية في شرقي أوروبا، وانتهاء مرحلة ثنائية القطبية وبدء مرحلة أحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة. رمى اتفاق أوسلو "السنارة" للقيادة الفلسطينية لتلتقط من جديد "طُعم" الدولة الفلسطينية. ودون الخوض في تفاصيل الاتفاق؛ فإن قضايا الحل النهائي -التي قد يؤدي حسمها إلى إنشاء دولة فلسطينية- جرى تأجيل البت فيها إلى مفاوضات لاحقة، كان من المتوقع أن تنتهي خلال خمس سنوات. وبالتالي لم تعد هنالك مواعيد واستحقاقات "مقدسة". وهكذا، مضى 24 عاماً (وليس خمسة أعوام) دونما حلٍّ جادّ يلوح في الأفق. وبينما كان الطرف الإسرائيلي يستمتع باحتلال من مستوى "خمس نجوم"، كان على الطرف الفلسطيني (قيادة المنظمة التي هي قيادة السلطة وقيادة فتح) أن يفي بالتزاماته وصولاً إلى "حلم الدولة". وما يعنينا هنا، أن حلّ الدولتين لم يعد قائماً، وفق مسار التسوية الحالي الذي لا يعدو كونه غطاءً لتهويد ما تبقى لفلسطين، وإنهاءً لحلم "الدولة الفلسطينية" وفق تطلعات من أيدوا هذا المسار، وفي ضوء الحقائق التي أنشأها الإسرائيليون على الأرض، وبناء على زيادة التطرف في منظومة المجتمع والقيادة السياسية الإسرائيلية، وعلى أن واشنطن معنية أساساً بتطويع الفلسطينيين للشروط الإسرائيلية. على الطرف الفلسطيني ومن يؤيده في البيئة العربية والدولية أن يكفوا عن "خداع الذات"، وأن يتوقفوا عن أسلوب جري الضحية وراء "الجلاد" لإرضائه أو لتقديم "الحلول" له، وكأن الضحية هي سبب المشكلة وليس الاحتلال. ولذلك؛ على قيادة منظمة التحرير والسلطة أن: - تصارح شعبها بالحقيقة، وتقوم بعملية مراجعة شاملة لكل مسار التسوية. - ترفع الغطاء عن مسار التسوية السلمية وتكشف قبح الاحتلال. - العودة إلى ترتيب البيت الفلسطيني وخصوصاً منظمة التحرير وفتحه للجميع، لاستجماع عناصر القوة في المشروع الوطني في الداخل والخارج، واستئناف مشروع المقاومة والتحرير. - التوقف عن ملاحقة قوى المقاومة المسلحة الفلسطينية، بل والتحالف معها، والتعامل معها كرصيد وطني يخدم في مراكمة القوة وعناصر الضغط على الاحتلال، واعتبار منجزات المقاومة في غزة رافعة للعمل الوطني، ورفض أي مساس بها. - السعي إلى إنهاء دور السلطة الفلسطينية كـ"سلطة وظيفية" تخدم أغراض الاحتلال؛ فإما أن تكون السلطة في خدمة البرنامج الوطني، وإما أن يتحمل الاحتلال مسؤولياته في مواجهة مقاومة جهادية ثورية فلسطينية. وأخيراً؛ لست متفائلاً بأن قيادة المنظمة والسلطة الحالية ستقوم بإجراءات كهذه، نظراً لطبيعة عقليتها وحساباتها، ولكنها -عاجلاً أم آجلاً، أحبت أم كرهت- ستواجه هذا الاستحقاق، أو سيفرضه عليها الشعب الفلسطيني. المصدر : الجزيرة