16 سبتمبر 2025
تسجيلتعيش أوكرانيا أزمة سياسية كبيرة بعد أن رفضت حكومة فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي يوم الجمعة الماضي، الأمر الذي استغلته المعارضة الأوكرانية لحشد قواها في العاصمة كييف، لممارسة الضغط الشعبي على الرئيس فيكتور يانوكوفيتش كي يقدم استقالته. وكان زعيم المعارضة الأوكرانية فيتالي كليتشكو دعا في كلمة ألقاها أمام مئات الآلاف من المحتجين في وسط كييف الرئيس الأوكراني وحكومته إلى الاستقالة، قائلا إنهم «سرقوا» حلم أوكرانيا بالوحدة الأوروبية، فيما دعا اوليه تياهنيبوك، وهو زعيم معارض آخر، إلى تنفيذ إضراب عام. وكان الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وصل إلى السلطة عقب الانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر فبراير 2010، حين فاز على منافسته رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو التي تعتبر من قيادات «الثورة البرتقالية». ويعتبر الرئيس فيكتور يانوكوفيتش مواليا لروسيا، وليه أنصاره الكثيرون في الإقليم الشرقي المحاذي لروسسيا. وتعيش أوكرانيا على نسق الأزمات السياسية التي تشل عمل مؤسسات الدولة منذ "الثورة البرتقالية" 2004-2005، إذ شهدت تفكك "الائتلاف البرتقالي" بعد بضعة أشهر من نجاحه ثم الفوز المفاجئ لتكتل الأحزاب الموالية لروسيا بزعامة فيكتور يانوكوفيتش في الانتخابات التشريعية التي جرت في عام 2006، ومنذاك والرئيس الأوكراني وحزبه "أوكرانيا بيتنا" يزدادان ضعفاً واضحاً بينما بالمقابل يخوض "حزب الأقاليم" الموالي لروسيا وهو حزب الأغلبية البرلمانية حرباً ضروسة بمحاولته تحقيق ائتلاف يانوكوفيتش الذي يضم 300 نائب كي يكون البديل المقبول وهو ما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. إن المقاربة الموضوعية للأمة الأوكرانية تقتضي الابتعاد عن رؤية الأمور من زاوية عودة المقولات الأيديولوجية المرتبطة بحقبة الحرب البادرة. فالمسألة الجوهرية تتمثل بمشكلة القوميات القديمة الذي كان خزان البارود الكبير للقرنين الماضيين وليس آخره ما حصل من تشظ للقوميات في يوغسلافيا، وبشكل أدق بطبيعة العلاقة بين أوكرانيا وروسيا وما أبعد من ذلك مكانة وموقع روسيا في إدارة شؤون العالم وكما قال مستشار الرئيس كارتر السابق للأمن القومي الأمريكي زبغينو برجينسكي: "إن روسيا من دون أوكرانيا تكفي أن تكون إمبراطورية" ولكنها "تصبح إمبراطورية أوتوماتيكياً مع وجود أوكرانيا تابعة ثم تابعة". ويرى المحللون الإستراتيجيون في الغرب أن أوكرانيا هي كيان سياسي هش مثل العديد من الكيانات السياسية الهشة الموجودة في العالم. وبالنسبة إلى العديد منها فهو حافظ على وحدته السياسية إبان الحرب الباردة بفضل التوازن الاستراتيجي الذي كان قائماً بين الشرق والغرب. أما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فقد استعادت حركة التاريخ دورتها نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. فهناك دول أوروبا الشرقية وكذلك دول البلطيق التي كانت جزءاً من المنظومة السوفييتية وجدت ضالة استقرارها السياسي من خلال نيل عضويتها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وهناك دولة يوغوسلافيا السابقة التي تبلقنت وتشظت بفعل التناقضات الغربية مع بداية 1990. إضافة إلى أزمة الهوية فإن "الثورة البرتقالية" التي تبنت الديمقراطية الغربية وأرادت استنباتها في التربة الأوكرانية لم تكن شروطها متوافرة كفاية في الثقافة والاقتصاد والسياسة لكي تحقق النجاح المطلوب. وفضلاً عن ذلك يشهد المجتمع الأوكراني عملية فرز في الفكر السياسي حيال موضوع الديمقراطية إلى مدرستين عريضتين إحداهما تقر بحاكمية الديمقراطية وأخرى تمنح أولويتها للردود عليها معولة على إخفاقاتها ونواقصها وعلى النتائج المترتبة على ذيولها. وتعكس الأزمة السياسية الراهنة الانقسامات العميقة في أوكرانيا بين المناطق الشرقية الصناعية من البلاد والناطقة بالروسية التي تفضل تطوير العلاقات التقليدية مع روسيا والمناطق الزراعية الناطقة بالأوكرانية وهي تفضل تطوير العلاقات مع الغرب بما في ذلك الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ويعتبر المراقبون ان المعارضة في أوكرانيا تذكرنا بمعارضات أخرى في عالم ما بعد الحقبة السوفيتية، التي توقعت الكثير من الغرب وخاب ظنها في النهاية. وربما حان الوقت لإلقاء نظرة أكثر واقعية الى ما يجري في الاتحاد السوفيتي السابق. فخلال ما عرف بالثورة البرتقالية الأوكرانية في عام 2004، لم ير كثيرون في الغرب إلا ما أرادوا رؤيته: شعب ينتفض على الفساد وسياسة التلاعب والضغوطات الروسية باسم التقدم نحو الديمقراطية والأسواق الحرة والغرب. وأبعد من ذلك، اختار كثيرون في الغرب التغاضي عن واقع أن أوكرانيا، على غرار معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة (باستثناء 3 دول صغيرة من البلطيق)، بقيت شديدة الارتباط بروسيا والجمهوريات الأخرى. ففي أوكرانيا، وهي جزء من الكيان السلافي في الإمبراطورية السوفيتية القديمة، ما زال نصف السكان يتماهون مع روسيا من الناحيتين الإثنية والوطنية. وهكذا، من السخيف الاعتقاد بأن المعارضة قادر ة على نقل أوكرانيا إلى المدار الغربي. إذ لم يتوقف التدخل في السياسة الأوكرانية على روسيا بل تعداه إلى أوروبا التي هي أكثر اهتماماً بالغاز الروسي منه بالديمقراطية الأوكرانية. من المفارقات في هذه الأزمة، انه في عام 1991، لم يتردد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين من الاعتماد على الانفصاليين الأوكرانيين للتخلص من غورباتشوف والاتحاد السوفيتي في آن معاً. أما مع الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، تبدو الأمور معكوسة. فهو يعلم جيداً أن الغالبية الساحقة من الروس يحنون بقوة إلى المرحلة التي كانت فيها روسيا قوة عظمى، سواء أكانت قيصرية أم بلشفية. وكان توكفيل قد تنبأ في زمانه، أنها ستتقاسم النفوذ والسيطرة على العالم مع الولايات المتحدة الأميركية. بيد أن الرئيس بوتين الطامح بتعزيز سلطته الأتوقراطية في روسيا، والذي قدم تنازلات للولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية - إذ أصبحت القواعد الأمريكية موجودة على حدود روسيا، كما أن دول أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة للهيمنة السوفيتية إبان الحرب الباردة، دخلت في معظمها إلى الاتحاد الأوروبي، وأصبحت منضوية تحت لواء الحلف الأطلسي - هذا الرئيس الروسي نفسه لن ينظر بعين الرضا إلى دخول أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. فروسيا الدولة الأكثر امتداداً في العالم بمساحتها القارية، والتي موانئها مجمدة ستة أشهر في السنة بسبب الجليد، ترى في خروج أوكرانيا من دائرة نفوذها استكمالاً لمسلسل إطباق الحصار عليها. لا شك أن إحداث تغيير مفاجئ في السياسة الخارجية لجهة التحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي والانضمام في عضوية الحلف الأطلسي، سيقود إلى ردة فعل من جانب روسيا، وإلى إطلاق ديناميكية انفصال قد تقود الى حرب أهلية وتقسيم أوكرانيا. كما أن الاتحاد الأوروبي لا يبدو في الوقت الحاضر مستعداً جدياً لتحمل مسؤولية آفاق انضمام أوكرانيا إليه في المدى المنظور أو في المدى المتوسط. أما إدارة الرئيس أوباما التي تخوض صراعاً تنافسياً مع روسيا بسبب الأزمة السورية، فهي تبدو حذرة، وتتهيب من الإسقاطات المدمرة لجهة فك روسيا تحالفها مع الولايات المتحدة على صعيد جبهة "الحرب على الإرهاب".