09 أكتوبر 2025
تسجيلتعتمد الرأسمالية على المنافسة الشديدة ضمن القوانين التي تحميها وتؤمن استمراريتها. تكمن المشكلة في سوء الممارسة من قبل الشركات والمؤسسات والأفراد كما في سوء الرقابة من قبل القطاع العام والأجهزة المختصة. من ناحية أخرى، ما هو الهدف الحقيقي للمنافسة والسعي المستمر للنجاح وتحقيق الأرباح والثروات؟ هل الهدف الحصول على ما يكفي للعيش الكريم أم هنالك أسباب أخرى تصل إلى حدود الجشع؟ هل هنالك مستوى معيشة يعتبر كافيا ويجب أن يسعى الجميع للوصول إليه أم أن الحدود مفتوحة من دون سقف؟ هل يخفف الإنسان نشاطاته ويرتاح عندما يصل إلى المستوى المعيشي المريح؟ أم هنالك أهداف أخرى تتعدى المعقول والمقبول وتصل إلى الجشع فيصبح تجميع الثروة هدفا بحد ذاته؟ هل هنالك مكان في اقتصاد اليوم للاكتفاء والقناعة، وقد تعلمنا منذ الصغر المثل القائل "القناعة كنز لا يفنى"؟ هل غابت القناعة وهل انتهى الاكتفاء المادي الذاتي ومن هو المسؤول؟ هل أن الأهل أم المدرسة أم الجامعة أم المجتمع ككل أصبحوا جميعا مسؤولين عن ممارسة النشاطات الاقتصادية لهدف واحد أخير هو الجشع؟ هل الجشع إنساني وهل خلق الإنسان كذلك؟ أم أن العلاقات الاجتماعية غيرت الإنسان وجعلته يبتعد عن المبادئ الخيرة الأساسية التي تبشر بها كل الديانات؟ لا ينكر أحد أن ممارسة الرأسمالية دوليا سمحت بتحسين المستوى المعيشي إلى حدود لم يعرفها التاريخ من قبل. لا ينكر أحد في الوقت نفسه أن الجشع والحسد والبخل ارتفعت أيضا إلى حدود لم تكن موجودة في الماضي. من المؤشرات الواضحة هو التركيز دوليا على قوة النمو الاقتصادي وضرورة تحقيق أفضل الممكن. تهدف كل الدول إلى تحقيق نسب نمو مرتفعة على حساب كل شيء. لماذا هذا التعلق الأعمى بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي ومحاولة رفعه إلى أقصى الحدود الممكنة حتى على حساب البيئة والصحة والأخلاق؟ لماذا يكون الناتج المحلي الإجمالي الهدف الأساسي وأحيانا الوحيد للسياسات الاقتصادية المتبعة في كل الدول؟ هنالك اقتصاديون كبار عالجوا هذه المواضيع ومنهم "ستيغليتز" وحاولوا إدخال معايير إنسانية إلى الناتج حتى يصبح أكثر واقعية ويعبر بالتالي بشكل أفضل عن مستوى المعيشة ونوعيتها. لم يحصل حتى اليوم اتفاق دولي بشأن البديل عن الناتج رغم أن نواقصه واضحة واستبداله ضروري ومنطقي. لماذا نحقق النمو القوي من دون سقف وأي نمو نريد؟ نمو المادة فقط دون النظر إلى المعايير الاجتماعية والإنسانية؟ يعرف العالم كله الاقتصادي "كينز" ودوره الكبير في تنشيط الاقتصادات على المدى القصير وفي تأسيس المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية كالبنك وصندوق النقد، كما في خلق النظام المالي العالمي الذي بدأ مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وما زال مستمرا بشكل أو آخر وإن كان ناقصا. لا يعرف العالم الكثير عن "كينز" فيما يخص نظرياته الطويلة الأمد للحياة الجيدة. يسأل في كتابه "الفرص الاقتصادية للأجيال المقبلة" عن سبب تحقيق الثروة وما هو المستوى الذي يجب أن نصل إليه للحصول على الرفاهية المطلوبة؟ أراد "كينز" سحب مساوئ الرأسمالية منها، وهي اقتصادية، أي مبنية على الجشع، وأخلاقية أي تتحقق بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة. استبق "كينز" الغضب الشعبي على المصارف والشركات المالية التي أدخلت العالم في أزمات متواصلة آخرها الأزمة الحالية المعروفة بـ"الركود الكبير". هدف "كينز" إلى حسم موضوع المقارنة بين النظامين الرأسمالي والشيوعي لصالح الأول الذي يؤمن للمجتمعات حياة نوعية أفضل. اعتقد "كينز" في سنة 1933، في غياب أي حروب كبيرة أو ارتفاع غير متوقع لعدد السكان، أن العالم سيكتفي ماديا خلال مئة سنة، أي في حدود سنة 2033 بحيث تخف الحاجة إلى العمل ويزداد الطلب على الإجازات واللهو والعطل، لأن الحاجات المادية تصبح مؤمنة. اعتقد "كينز" أن الرأسمالية هي مرحلة انتقالية لهدف تحقيق الحياة الجيدة والنوعية، لذا يجب أن تعمل بشكل كامل وبكل طاقاتها. غاب عن "كينز" أن حاجات الإنسان ليست ثابتة وجامدة، بل تغيرت وزادت مع الوقت بحيث أصبح تحقيقها عملية مستمرة لا سقف لها. الرأسمالية خلقت سلعا وخدمات جديدة وبالتالي أصبح الحصول عليها واجبا، بل ضرورة. غاب عنه أن القناعة والاكتفاء لم يعودا من شروط الحياة السعيدة وبالتالي يريد الإنسان الحصول على أكثر فأكثر ليس فقط لرغبته أو حاجته له وإنما لأن الغير حصل عليه وبالتالي أن الحسد يدير تصرفات الإنسان. ما الذي حصل بعد عقود من النمو والجهود المتواصلة على صعيد الفرد أو الشركة وحتى الدولة؟ أولا: لم تنحدر ساعات العمل في معظم الدول. حتى في تلك التي قصرت ساعات العمل الرسمية، يسعى الإنسان إلى زيادة دخله بعد الدوام تبعا لإمكاناته وكفاءاته. ارتفع مستوى الأجور دون أن يخف ضغط العمل وتحدياته. هنالك 3 تفسيرات أحدها صحيح. يعمل الإنسان أكثر لأنه يحب ذلك أو مهووس به. يعمل لأنه مجبر في القانون واجتماعيا عليه. يعمل لأن حاجاته ترتفع من يوم لآخر وبالتالي عليه العمل أكثر للحصول على هذه الحاجات وهي الصحيحة على الأرجح. ثانيا: هنالك خوف في بعض المجتمعات من التقاعد واللهو وبالتالي يعمل الإنسان طالما أن لديه القدرة على ذلك. العمل غير مرتبط بالحاجة المادية ونرى ميسورين كبارا يعملون حتى آخر الليل ليس للمادة وإنما لاستمرار دورهم في المجتمع كما لاستمرار رغبتهم في الحياة التي لا قيمة لها في رأيهم إذا لم يعملوا بجهد واستمرار. ثالثا: هنالك مؤشرات تقول بأن الإنسان يعمل أكثر وساعات أطول ليس لهدف مادي وإنما لإبقاء نفسه فاعلا ومساهما في المجتمع كما للهروب من الضجر أو المشاكل العائلية والاجتماعية. هنالك من يربط بين العمل والدور في المجتمع وبالتالي من يتقاعد يصبح خارج المجتمع ولا قيمة أو دور له. تغيب عن بعض المجتمعات الأدوار الخيرية والاجتماعية الكبيرة التي يقوم بها المتقاعدون في الدول الغربية والإسكندنافية تحديدا. رابعا: في معظم الدول النامية والناشئة وبسبب غياب الضمانات الاجتماعية والصحية الكافية والمناسبة، يضطر الإنسان إلى العمل بعد الدوام وحتى بعد التقاعد لتأمين متطلبات الحياة العادية والاستهلاكية.