08 أكتوبر 2025
تسجيلتفترق فكرة الحداثة عن جميع الأفكار الأخرى بأنها ولّدت آلية النقد الذاتي الذي أصبح جوهرها الموجه لها. في بداياتها الأولى وثورتها على السلطة والمجتمع التقليديين القائمين على خليط السيطرة والاستغلال الذي أنتجته قرون التحالف بين الإقطاع والدين، قدمت الحداثة طرحاً ثوريا تحرريا لكنه كان مؤدلجاً وخلاصيا، أي أنها اعتقدت أنها "الحل" الخلاصي للإنسانية الذي يحررها من قيود التقليد والميتافيزيقيا والدين والاستغلال. وبذلك فإنها طرحت نفسها، بوعي أو من دونه، بديلا أيديولوجيا في ميدان الأيديولوجيات الخلاصية، والتي كان كل منها يضع نهاية سعيدة للكون والبشر، ويريد حشر مسيرة التاريخ والمستقبل لتسير وفق تلك النهاية. وكما كان الدين يرسم مسارا خاصا للإنسانية ونهاية محددة، جاءت الحداثة لتقوم بالشيء ذاته وتتورط في المنهج الخلاصي نفسه، لكن مع تغيير في الطريق وفي شكل النهاية المفترضة. بمعنى ما، أصبحت الحداثة "الصارمة والتقليدية" القائمة على جبروت العقل والعلم والانعتاق دينا جديدا وأيديولوجيا تنافس الأديان والأيديولوجيات القائمة.لكن الفصل المثير في قصة الحداثة يكمن في توليد طاقة النقد الذاتي، ذلك أنها وباعتمادها على العقل اكتشفت خطل تموضعها على مسار الأيديولوجيات التي تعتقد في ذاتها معرفة المسار الخفي للبشرية وقانون الطبيعة وترسم تبعا لذلك "خطة" لأيلولة الإنسانية والكون. نقدت الحداثة نفسها وتحررت من شكلها الأيديولوجيا، ذلك أن الأيديولوجيا وكما وصفها ماكس هوركهيمر أحد رواد مدرسة فرانكفورت النقدية هي العقبة الأساسية في طريق الانعتاق الإنساني. التحرر الذي حدث للحداثة من التورط في أدلجة لا انفكاك منها تم بفضيلة النقد والمنطق والعقل وهي القيم الجوهرية للتنوير والثورة على التقليد، في قلب الحداثة تأسست تدريجيا مدرسة نقد الحداثة، والتي كان هوركهيمر أحد أهم فلاسفتها، انتبه هوركهيمر إلى الديالكتيك الخطير الذي انزلقت إليه المجتمعات الحديثة التي من المفترض أن تكون نتاج عملية التحرير الكبير الذي قادته الحداثة وأخرجت به هذه المجتمعات (خاصة الغربية) من غيبوبة التقليد وتحالف سلطات الدين والمجهول والإقطاع عليها. لقد تحررت هذه المجتمعات من قيود تقليدية ما قبل حداثية، لكنها سرعان ما ورطت نفسها طائعة في قيود جديدة وعبوديات حداثية، وقد التقط هوركهيمر هذه السيرورة مبكرا جدا في أربعينيات القرن العشرين، في كتابه "تجاوز العقل"، واصفا إياها بما يلي: "... بعد أن ساعدنا العلم على تخليص أنفسنا من الرهبة من المجهول في الطبيعة، ها نحن الآن نصبح عبيدا للضغوط الاجتماعية التي صنعناها نحن، فإزاء الدعوة كي نكون فاعلين مستقلين، نتوق عوض ذلك للالتحاق بالنظم، والأنماط والسلطات. وإذا كانت الاستنارة والتقدم العقلي تعني تحرير الإنسان من المعتقدات الخرافية في القوى الشريرة والأساطير والقدر الأعمى، أو باختصار تحريره من الخوف، فإن نقد ما يسمى اليوم بالمنطق هو أكبر خدمة يمكن للمنطق أن يقدمها".وقعت المجتمعات الحديثة في أسر أنماط الحياة والسلوك والاقتصاد والسياسة والتنظيم الصارم الذي جاءت به الحداثة، وجاءت به أصلا للتمرد على فوضى وخوف ولاعقلانية المجتمعات ما قبل الحديثة. وهكذا فقد حررت المجتمعات من قيود الخرافات حيث كان الأفراد يخضعون لإملاءات غيبية ميتافيزيقية غير مباشرة وسلطوية مباشرة، لكنها أخضعتهم لقيود الحياة الحديثة وبرنامجها المنضبط الذي يحدد حياة الأفراد ويرسم لهم التوقعات والمسارات التي من المفترض أن يسيرون فيها. وعلى هذا الضبط الصارم والتنميط الجماعي للأفراد ثارت مدرسة نقد الحداثة، واشتغلت أولا على خلق هوامش للحرية والانعتاق والتمرد على جوانب الحداثة وتمثلاتها المختلفة في الحياة، ثم لاحقا وهو الأهم على نقل تلك الهوامش لتصبح في "المجال العام" للحداثة ذاتها، وتمييع ما هو تنميطي فيها أو إضعافه. وتجلت انعكاسات تلك الإزاحة بالغة الأهمية في ازدياد التمرد ما بعد الحداثي على التنميط الحداثي نفسه، في مجالات الفن والأدب والإعلام والعمارة، ثم توسعت لتشمل مقاربات عديدة في العلوم الاجتماعية وصولا إلى السياسة والاقتصاد في "سياسة ما بعد الحداثة".وهكذا خلقت الحداثة ذاتها وعبر آلية النقد التي استبطنتها جوهريا "ما بعدها" الخاص بها... "ما بعد الحداثة". لكن هذه "الما بعدية" لم تنقض العملية الأم، الحداثة، لكنها قامت بدور بالغ الأهمية وشبه فريد في تاريخ الأفكار وهو طرح الأسئلة الصعبة والمتفجرة وإلقاؤها في حضن الحداثة التي تنشغل في إيجاد الرد عليها عن طريق تصويب مساراتها المتعرجة والمتعددة دائما. لكن ما الجديد في هذه السيرورة، أي أن تنتج فكرة ما وليدها الناقد الذي يصحح بعض جوانبها؟ فهذه السيرورة موجودة في كل الأفكار وحتى في الأديان، حيث شهدت كبرياتها حركات قامت على النقد والإصلاح الديني. الفرق الكبير في حالة الحداثة وما بعد الحداثة هو أن النقد لم يكن مقيدا بحدود الفكرة الأم ولم يحترمها ولم يقدسها، ما بعد الحداثة لم تحاول نقد الحداثة وحسب بل ونقضها. من هنا فإن التميز وربما الانفراد التاريخي الذي جاءت به الحداثة ووليدتها يكمن في هذه النقطة بالضبط، وهي انعتاق النقد وآليته من دون حدود، وإلى درجة النقض الكلاني للفكرة المؤسسة. وبسبب لا محدودية هذا النقد وشراسته في كثير من الأحيان فإن الفكرة الأم صارت دائمة الاستنفار للانخراط في عملية تصويب مستديمة لذاتها وتجسيداتها في الواقع. وبكلمة أخرى، أنتجت الحداثة آلية داخلية شبه نادرة وتميزها عن أي فكرة أخرى تتمثل في التصويب الذاتي المستديم والذي يسير يدا بيد مع الفكرة وتطبيقاتها، ولا يقف على الهامش أو يستخدم ظرفيا أو تظاهريا. النقد الذاتي الحداثي وما بعد الحداثي للحداثة صار جوهرها ومحركها الأساسي، ولهذا ظلت تتجدد وظلت محافظة على بريقها. ويأتي بريقها الأهم من عدم ادعائها بأنها تمثل الحل الخلاصي لأي مجتمع من المجتمعات، وبكونها قطعت من زمن طويل مع بداياتها الأيديولوجية، والنظريات الخطية التي سيطرت على عقول كثيرين في الحقبة الكولونيالية، حيث أرادوا جلب العالم المتخلف إلى أنوار الحداثة التي هي وحدها هي الحل وهي وحدها التي سوف تخلصهم من تخلفهم حتى رغما عنهم.تنجح أي فكرة أو سيرورة أو سياسة وتستديم بالقدر الذي تتبنى فيه النقد الذاتي، لأن هذا النقد هو الآلية الوحيدة التي تضمن التصويب المستمر للأخطاء وتعيد مقاربة الأشياء بالشكل الأكثر قربا لما هو مفترض ومتوقع من فاعلية للوصول إلى ما هو مرغوب من أهداف.