18 سبتمبر 2025

تسجيل

تركيا في المستنقع الشرق أوسطي

04 أكتوبر 2014

عندما يُسأل رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو عن سبب تغير سياسات تركيا إزاء العديد من القضايا الخارجية ولاسيَّما في الشرق الأوسط يجيب بأن تركيا لم تتغير بل الآخرون الذين تغيروا. في خطابه الأخير أمام المنتدى الاقتصادي الذي عقد في اسطنبول قبل أيام لم يجد داود أوغلو من بين ما تحدث عنه لإعطاء مثل على سياسة تركيا الخارجية الجيدة مع دول أخرى سوى تلك الاتفاقيات التي عقدها مع اليونان. ولم يقدم أمثلة أخرى مع دول أخرى، علما أن العلاقات مع اليونان رغم تحسنها تبقى الأكثر تجذرا في العداوة التاريخية والجغرافية والحضارية والمسألة القبرصية نموذج لها. نسوق هذا الكلام مع ما تصفه وسائل الإعلام الموالية لحزب العدالة والتنمية في تركيا من تغيير جذري في سياسة تركيا تجاه المنطقة ولاسيَّما سوريا والعراق. وهو كلام يأتي في مناسبة طلب الحكومة من البرلمان تفويضها إرسال قوات عسكرية إلى خارج تركيا في سوريا والعراق كما الموافقة على تمركز قوات أجنبية على الأراضي التركية. ومبعث التغيير هنا هو أن تركيا قررت للمرة الأولى أن تتدخل عسكريا في سوريا وربما العراق لمواجهة التهديدات المحيقة بها. وهذا ليس بموجب قرار دولي أو حتى بالتنسيق مع قوات التحالف الدولي ضد الإرهاب بل التدخل بمفردها. إذن، تركيا تنتقل من حيز الاعتماد على "القوة الناعمة" إلى استخدام "القوة الخشنة" أي السلاح والجيش والقوة لتغير أوضاع قائمة. أطلقت تركيا مصطلح القوة الناعمة في إطار سياسة "صفر مشكلات" التي اتبعتها بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002. وكان الغزو الأمريكي للعراق التحدي الأول الذي واجه هذه السياسة. وطورت تركيا هذه الإستراتيجية لاحقا لتقيم علاقات عميقة مع معظم الدول الإقليمية المحيطة بها أو متوسطة البعد وجعلت أحد أهدافها إزالة الحدود بينها وبين جيرانها ليس من طريق القوة والغزو بل إزالة تأشيرات الدخول وإقامة مناطق تكامل اقتصادي. نجحت تركيا في ذلك على امتداد سنوات قليلة بين عامي 2003 و2010 وما عاد لتركيا من عدو في المنطقة بل كانت النموذج الذي يشار إليه في كيفية حل المشكلات عبر الدبلوماسية الناعمة. غير أن ما سمي بـ "الربيع العربي" كان نقطة تحول في هذه الإستراتيجية التي واجهت تحديات أهمها كيفية التوفيق بين الشعارات وبين احترام سيادة الدول الأخرى كما في الحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة بين متناقضين. ومع مرور الوقت وتغير مسارات الأحداث في الدول العربية المضطربة، وكما عصفت التدخلات الخارجية بأحلام الشعوب المنتفضة عصفت كذلك وأطاحت بكل العناوين التي رفعتها تركيا في المرحلة السابقة. فما عادت العلاقات التركية مع جيرانها إستراتيجية ولا في نقطة"صفر مشكلات" وتراجعت التجارة وسادت الحساسية والحدة في الخطاب السياسي. واكتمل طوق العلاقات المقطوعة أو المتوترة مع الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر وتوتر العلاقات مع مصر ومعظم الدول الخليجية. لكن تطور الأوضاع في سوريا والعراق وظهور تنظيم"داعش" وتمدده فيهما، ومن ثم تشكل تحالف دولي ضد الإرهاب أفضى إلى تغير دراماتيكي في المقاربة التركية للأحداث. إذ إن ظهور العامل الكردي في مقاومة تنظيم داعش في شمال العراق استدعى ردا تركيا تمثل في السعي للتخلص من تحكم حزب العمال الكردستاني في المناطق الكردية في شمال سوريا. وإذا كان الأكراد يواجهون ضغوطا قاتلة من "داعش" فإن الأتراك لم ينتظروا نتائج هذه المعارك بل عمدوا إلى استصدار تفويض من البرلمان للتدخل العسكري في سوريا تحديدا وإقامة منطقة عازلة تحقق أكثر من هدف. وتعكس المعلومات أن تركيا ستمضي في إنشاء هذه المنطقة داخل سوريا حتى لو كان ذلك بمفردها ومن دون أي مشاركة من دول أخرى. لا شك أن هذا القرار بإنشاء منطقة عازلة بل التدخل العسكري لتغيير الوقائع على الأرض ليس بالنزهة السهلة بل له تداعياته ومخاطره التي لا يمكن التنبؤ بها منذ الآن خصوصا في منطقة مضطربة وهائجة. غير أن عنوان هذا التحول أن تركيا لم يعد ذلك البلد الذي يرفع شعار "القوة الناعمة" التي باتت من الماضي وهو ما يعني أن تركيا دخلت هذه المرة بالفعل في المستنقع الشرق أوسطي الذي كما دلت تجربة السنوات الأربع الماضية، لا يخرج أحد منه سالماً.