14 سبتمبر 2025
تسجيلفي ظل الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها تونس منذ أن بدأ مسلسل الاغتيالات السياسية لرموز المعارضة اليسارية و القومية مع بداية هذه السمة، رأت الأحزاب والتنظيمات اليسارية التونسية أنّه بعد الانتخابات اتضح أن الحكم الحالي الذي تقوده حركة النهضة الإسلامية يسير في الاتجاه المعاكس لأهداف ثورة 14 جانفي2011وانطلاقاً من هذه الرؤية، أكدت الأحزاب و التنظيمات اليسارية و القومية التي شكلت مع بداية هذه السنة "الجبهة الشعبية" على ضرورة التصدي لمشاريع الهيمنة المتجددة، غير أنّ ذلك لا يمكن أن ينجح إلا بتكتل أكثر ما يمكن من القوى التي تطرح برامج معارضة للتوجهات السياسية والاقتصادية للسلطة الحاكمة. وفي هذا السياق هاجمت "الجبهة الشعبية "حزب"النهضة" الإسلامي، وحزب "نداء تونس" المعارض الليبرالي الذي أسسه قبل بضعة أشهر رئيس الوزراء السابق الباجي قايد السبسي، وقالت إن التونسيين "لم يجنوا من ثورتهم سوى مزيد من التفقير والتهميش والاستبلاه والتسويف"، متهمة الحكومة بـ "السمسرة بدماء شهداء الثورة وجرحاها".وشبهت الجبهة الحزب الذي أسسه السبسي بـ "الحضن الناعم للتجمعيين (أعضاء حزب التجمع الحاكم في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي) وكل الفاسدين من رجال الأعمال". ويجمع المحللون الملمون بالشأن السياسي التونسي أن "الجبهة الشعبية"، كان بإمكانها أن تكون خياراً انتخابياً ثالثاً في تونس التي تشهد حالياً استقطاباً كبيراً بين الإسلاميين ممثلين في "حزب النهضة"وحزب "نداء تونس"، لا سيما أن هناك عوامل عديدة تدفع بقوى اليسار لتوحيد صفوفها، في ضوء الهزيمة التي منيت بها الأحزاب اليسارية و القومية في الانتخابات الماضية،و التي جعلت العديد من قواعد هذه الأحزاب تدفع نحو رص الصفوف لمواجهة ما تواجهه الساحة. غير أن "الجبهة الشعبية" ينتظرها عمل كبير، لجهة توحيد أكثر ما يمكن من الرؤى بين أطرافها اليسارية والقومية، إضافة إلى تعميق فكرة العمل الجبهوي واللقاء السياسي،ثمّ بلورة رؤاها وبرامجها البديلة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن اليسار التونسي مطالب بأن يتحرر من الأطر الأيديولوجية السابقة، ويعيد التأسيس للجبهة الديمقراطية في ظل الدور المتصاعد للطبقة المتوسطة في تونس التي انخرطت منذ بداية التسعينات من القرن الماضي في العولمة الليبرالية، حيث جنت البلاد ثروات جلبتها تلك العولمة،واستفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، وحلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق. وتجاهل النظام الديكتاتوري السابق وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي يحمل شهادات جامعية إلى مستويات غير مسبوقة،وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب،وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطال كل مناحي الحياة،وأهمل أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيوليبرالية من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر الخ...و لم يفعل وزراؤه الكثير للتعامل مع هذه الأزمات. انطلاقاً من هذا التحليل، فإن مصطلح الجبهة الشعبية كإطار أيديولوجي وسياسي يعبر عن تطلعات الفئات الكادحة، لا يستقيم علميا وسوسيولجيا في المجتمع التونسي في مرحلة ما بعد الثورة، لأنه يتجاهل أن تونس كانت معدلات النمو الجيدة فيها في مرحلة ما قبل الثورة، تعتبر الأعلى بين البلدان العربية خارج منطقة الخليج ونجح النظام الديكتاتوري السابق نسبياً في تحسين المؤشرات الاجتماعية الرئيسية كالحد من الأمية ونشر التعليم وضمان درجة مقبولة من المساواة بين النساء والرجال في المجتمع، وهذه العوامل الثقافة والتمدّن والعولمة، تدخل جميعها في إطار تشكّل الطبقة الوسطى، الأمر الذي يجعل من التطلعات المشروعة للطبقة التونسية إلى بناء ديمقراطية فعلية و حقيقة في تونس، مسألة في غاية من الأهمية. فكان من الأجدر على قوى اليسار التونسي أن تركز الضوء على ظاهرة الطبقة المتوسطة التي تمتلك القدرة على تحقيق التحول نحو الديمقراطية بمجرّد وصول معدّل الدخل الفردي في البلاد 4 آلاف و300 دولار أمريكي. ولمصادفة الأرقام الغريبة، بلغت القوة الشرائية التونسية عند انفجار الثورة 9 آلاف دولار، وهو ما يعادل 2200 دولار عام 1975، زمن تحوّل إسبانيا نحو الديمقراطية.. ويبقى السؤال، هل تصبح تونس الديمقراطية الأولى في القوس العربي؟